الرأسمالية ليست فلسفة وانما هي واقع تنازل الانسان
وتراجعه امام الاشياء التي خلقها وانتجها – ميشيل عفلق
من الظواهر الملفتة للنظر هو ذلك الجهد المتعدد الأشخاص والواجهات والذي ينصب على التشكيك بالديانات السماوية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، بالادعاء بإنها مجرد غيبيات لا تنسجم مع العلوم الحديثة، وبالتالي فللعلم أرجحية على الدين وعلينا أن نلتزم بنتائج العلوم فقط لا بثوابت الأديان السماوية التي تقع في خانة الميتافيزيق وليس الواقع الملموس،وإكمال تلك الصورة عبر إعادة كتابة تاريخنا ومحاولة تغيير أحداثه وأماكنها ، ومنها الجهد المنظم بدقة لتغيير اماكن أحداث التوراة وغيرها من الكتب اليهودية بالادعاء انها لم تقع في فلسطين وإنما في الجزيرة العربية!
وأول ما يلاحظ على من يقومون بهذه الجهود هو أنهم ليسوا خبراء بالمعنى العلمي وإنما هواة جرتهم قدرتهم الأدبية على الكتابة الروائية والقصصية أو التحليلية في الإعلام والسياسة والأيديولوجيات، إلى استخدامها في محاولة تفسير التاريخ ودور الأديان، وهذه نقيصة كبرى تثبت على من يقومون بذلك. لقد استمعت إلى محاضرة لإمرأة تونسية ألقتها في (المعهد العالمي للتجديد العربي) حول الأديان خلاصة محاضرتها تثبيت فكرة خطيرة وهي أن الديانات السماوية الثلاث ليست ديانات منزلة من السماء، فاليهودية أيديولوجيا صنعها موسى، والمسيحية أيديولوجيا صنعها عيسى، والإسلام أيديولوجيا صنعها محمد، وبالتالي فإن الذي يصنعه البشر يمكن أن يرفضه البشر الآخرين ! ودون ادنى شك فأن هذه الأطروحة تشكل تمهيدا لما يسمى ب(البديل الإبراهيمي) الذي يقوم على تدمير الديانات السماوية الثلاث ، وفرض ديانة دنيوية شيطانية تهدف إلى استعباد البشر بطريقة غير مسبوقة في التاريخ.
كذلك فإن الدعوة لإعادة كتاب تاريخ فلسطين واليهودية عبر اعتبار أحداث التوراة التي يدعي هؤلاء انها حصلت في الجزيرة العربية خصوصا في اليمن وليس في فلسطين، ليس سوى عملية تهديم للتاريخ العربي والتمهيد لكتابته بطريقة تخدم مباشرة الاطماع الصهيونية خارج فلسطين،وهذه الأطروحة بدأ بها كاتب لبناني هو كمال صليبي في الثمانينات على ما أتذكر، ووقتها قمت بالرد على هذه الأطروحة، وقلت في ردي بأن النتيجة الطبيعية لهذه الأطروحة هي أننا بعد تحول فلسطين الى مستعمرة صهيونية فان تغيير اماكن احداث التاريخ وفقا لهذه الاطروحة سيعقبه خطوات صهيونية وغربية لغزو الجزيرة العربية من قبل اسرائيل، على اعتبار أنها (الأرض التاريخية لليهود بشهادة مختصين عرب) !!! وتستند هذه الأطروحة أساسا على تشابهات في أسماء أماكن بالدرجة الأولى، وهو استناد باطل أصلا لأن تشابه اسماء المدن والاماكن موجود في أغلب دول العالم، لأسباب عدة.
وما يجب اخذه بنظر الاعتبار قبل كل شيء، وبغض النظر عما تنطوي عليه هذه الطروحات، فإن كل شيء تقاس نتائجه بالمرحلة التاريخية التي يطرح فيها، فكم من حقيقة أخفيت في التاريخ والذي أخفاها هو الغرب والمستشرقون والآثاريون والعلماء فيه طوال قرون، وروجوا لغير الواقع الذي اكتشفوه، خدمة للهدف الغربي الاستعماري، بل إن تاريخنا في الواقع كتبه الغرب ولهذا فإن الدعوة الحقيقية والأصيلة والصحيحة لإعادة كتابة تاريخنا بصراحة قام النظام الوطني في العراق في الثمانينات وشكل لجانا من المختصين بالتاريخ والآثار وبقية العلوم لأجل التمييز بين ما هو مزيف وما هو حقيقي مما وجدناه في كتب التاريخ.
ونظرة سريعة لما يطرح توصلنا بكل سهولة الى حقيقة ساطعة وهي ان مراكز بحوث وجهات غربية وصهيونية معروفة تقف وراء هذه الطروحات ، فنحن نمر بأخطر مراحل تاريخ أمتنا العربية حيث الاحتلالات تنتشر في العراق واليمن وسورية ولبنان، وطروحات الاحتلال وظيفية وتقوم على نسف تاريخنا والحط من شأن الديانات أو استخدام الطاائفية لتكون أدوات تخريب وتدمير ثوابت أمتنا وللحمة القومية العربية، فهل توقيت اثارة هذه الطروحات في هذه المرحلة بريء؟ أم هو امتداد للمحاولات الغربية الصهيونية والفارسية لإسقاط تاريخنا ومحو هويتنا القومية وإنجازاتنا الحضارية وفرض تاريخ مزور يخدم أعداء أمتنا العربية؟
ان إثبات أن هذه الطروحات في نتائجها التطبيقية تخدم الصهيونية والغرب وتفسح المجال للمزيد من الإصرار على تدمير الأمة العربية وغزو جزيرة العرب، يؤكده أعلان نتنياهو مؤخرا (ان اسرائيل ستعيد رسم حدود ما يسمى الشرق الأوسط)، وهذا يذكّر بقول غولدا مائير عندما احتلت اسرائيل الشرقية الضفة الغربية وقالت (انني اشم رائحة اجدادي في خيبر) ، اي في السعودية، وما اظهره نتنياهو بوضوح هو انه يريد إقامة إسرائيل التوراتية الكبرى على إنقاض العراق وسورية ولبنان والسعودية والأردن ومصر، والمفترض تقسيمها وفق مخطط برنارد لويس، وهذا التوجه يشكل العنصر الحاسم في تقييم تلك الطروحات أذ لم يسبق لشعب من الشعوب وهو يواجه خطر الإبادة الجماعية لسكانه والمحو الصريح لهويته وتاريخه وإنجازاته أن يظهر من بين أفراده من يؤيد طروحات العدو لتحقيق تلك الأهداف! العقل والمصلحة العلمية والوطنية تقتضيان تأجيل اي قضية تهدد بنسف الاجماع الوطني الى مرحلة ما بعد التخلص من التحديات فتناقش بعقل منفتح وفي اجواء تسمح بطرح مختلف الاراء وليس السماح بطرح رأي واحد كما يحصل الان، للوصول إلى استنتاجات تتعلق بما هو صحيح وما هو خاطئ منها، استنادا للحقائق الموضوعية فقط .
تقول الاطروحات (ان الدين غيبي وبالتالي فهو لايحل مشاكل الحاضر بعكس العلم الذي يوفر الفرص للحل) ،فهل كل الدين غيبي ؟ أم ان إلغيبية جزء منه؟ وهل الغيبية بذاتها محض معتقدات لاصلة لها بواقعنا ومشاكلنا ؟ الذين يقولون بأن الدين كله غيبي أما جهله أو يتجاهلون حقيقة الدين، فالدين أيضا فيه تنظيم للعلاقات الاجتماعية كالزواج والإرث والأخلاق وتثبيت مبادئ العدالة والانصاف وغير ذلك من الثوابت النظامية ، وهذه ابسط بديهية يعرفها طالب الابتدائية، فكيف يغفلها من لديه شهادة دكتوراه؟ ما الحكمة،أذا من وصف الدين بأنه كله غيبيات؟ والوجه الاخر المقترن بهذه الملاحظة هو في طرح السؤال التالي: هل العلم كله علم أم أن الجزء الاعظم منه غيبيا كالدين تماما؟ الغيبية في العلم تتمثل في ماوراء الطبيعة (الميتافيزيقا) التي تتحكم بالجانب الغيبي من الدين، وبنفس الوقت تتحكم بالجانب الغيبي من العلم. الجانب الغيبي من العلم هو ما لم يكتشف من الحقائق الكونية، فنحن لم نكتشف الا جزء بسيطا جدا من المعلومات عن الكون ، وذلك لسعته الهائلة واستحالة فهمه بصورة دقيقة ونهائية، بدليل ان كل اكتشاف كوني يسقط نظريات سابقة، فهي كانت بطبيعتها نظريات غيبية لانها نظّرت لما هو غير قابل للاحتياز او الفهم الدقيق، فمثلا حتى بضعة سنوات كان العلماء يعتقدون بأن نظرية أنشتاين حول سرعة الضوء لا سرعة اقوى منها ولكن اكتشف الآن أن هناك سرعات أسرع من الضوء، والسبب يكمن في حقيقة بارزة وهي ان الكون معقد جدا وكل نظرية حوله قد تكون صحيحة ولكن في جزء بسيط منه فقط ، وتوجد مقابلها حقائق مناقضة في اطار تشكيل كوني اوسع مازلنا نحبو كالاطفال لفهمه ! إذن العلم في جانب منه يقوم على فرضيات غيبية والغيبية هنا هي ماوراء الطبيعة او الميتافيزق .
الملاحظة الاكثر اهمية هي أن العلم لم يعد علما كما بدأ بل إنه أخذ يستخدم أو يزيف من أجل إبقاء الإنسان مضطهدا مستغلا مظلوما من قبل الزمرة التي تملك المال في العالم ،وهو ما اكده الرفيق القائد المؤسس ميشيل عفلق في النص المذكور هنا ،والآن نشهد كيف أن العلم المزيف يستند في دعواه على التزييف العميق لكل شيء تقريبا ،خصوصا ما يتعلق بما لم يعرف من الطبيعة والكون ، وبما هو خارج الوعي الانساني ،أي ميتافيزيقي أو غيبي، مثلا نرى الآن الخلط المتعمد بين الخيال العلمي والواقع الذي عززه بقوة مذهلة الذكاء الاصطناعي فازاح العلم عن عرش الموضوعية والصدق واحل محله الاكاذيب والتلفيق العلمي. أن الأنترنت مثلا مملوء بالقصص والأفلام والصور التي ظاهرها علمي وباطنها تزوير العلم، هل هذا يعد نقيصة في العلم أم إنه نقيصه في العلماء؟ وكما أن ما يسمى علماء الدين فيهم نقائص فإن فيهم أيضا أشياء إيجابية كالتربية الأخلاقية التي يقوم بها بعضهم ، وبحكم تجارب العقود الماضية أثبتت بعض تطبيقات الدين أنها هي الأصلح للإنسان من قيم العلمانية الغربية كتنظيم الأسرة ومعنى الأخلاق والقيم العليا والتعامل الاجتماعي.
استمعت مؤخرا إلى مختص بالتاريخ يقول أن العلم هو المرجعية الوحيدة ويستشهد بذلك الموبايل والإنترنت على اعتبار أنهما أعظم إبداعات البشر، وهذا وجه واحد من الصورة ولكن هناك اوجه اخرى خطرة جدا على الانسان ترتبت على الموبايل والانترنيت لم يرها ذلك الشخص، او تجاهلها، وهي اخطر من كل تزييف رجال الدين في تاريخ البشرية كله ،فالخبير الحقيقي هو الذي يكتشف كل الصور المتعددة لظاهرة واحدة ويتناولها دون إغفال واحدة منها،ويكون من اهم واجباته ايجاد الرابط العضوي بين تلك الصور، فهل الإنترنت والموبايل اللذان يفتخر بهما بعض أنصار نظرية الحل التكنولوجي كله انجاز عظيم ؟ هل العلم هو المرجعية الوحيدة كما يقال؟ ام ان الغيبيات تلعب احيانا،وفي مراحل الحسم التاريخي للصراعات العظمى دورا لايمكن حتى للعلم ان يلعبه في التغيير الجذري؟ لننظر الى ما فعله الموبايل والانترنيت مصدر فخر ذلك الشخص، ولننظر الى الغيبيات الدينية وما فعلت ولنرى من منهما خدم قضايا التحرر العلم ام الغيبيات؟ يتبع .