الرأسمالية ليست فلسفة وانما هي واقع تنازل الانسان
وتراجعه امام الاشياء التي خلقها وانتجها – ميشيل عفلق
انظروا إلى نتائج استخدام الإنترنت والموبايل: لقد أدى ذلك وقبل أن يمضي نصف قرن على استخدام الإنترنت والموبايل إلى تغييرات جذرية خطيرة في علاقات البشر وبالذات في علاقات العائلة وعلاقات الأصدقاء والقيم الاجتماعية، فالفرد الآن محكوم بطريقة مرضية بعبودية الموبايل والإنترنت، وتقطعت العلاقات العائلية وكل أنواع الصداقة الحقيقية، ونشأت صداقات افتراضية بدلا عنها بين بشر لم يلتقون بغالبيتهم الساحقة ببعض إلا عن طريق الإنترنت، وهكذا أدى هذا العلم المزيف المستخدم سياسيا إلى نتيجة مرعبة ومدمرة للمجتمع البشري وهي تدمير العلاقات الاجتماعية والعائلية والإنسانية، ومع ذلك، ويا للمفارقة السمجة! يسمون منصات الانترنيت مواقع التواصل الاجتماعي! والاكثر رعبا إنه يمهد لعصر من العبودية لم يسبق له مثيل، فعندما يسطّح وعي البشر باغراقهم بكم هائل من المعلومات اليومية المقتضبة لايستطيع العقل استيعابها كلها الامر الذي يجعل الانسان عاجزا عن قراءة كتاب او بحث او اجراء بحث والنظر في حياته بهدوء، من منطلق ان العقل الانساني يحتاج الى فترات صمت وهدوء وراحة يتأمل فيها الانسان ما فعله ويقيّم خطواته وبنفس الوقت يريح عقله كي يستطيع التفكير بلا ضغوط الكم الهائل من المعلومات التي تستنزف الدماغ !
وحينما تصبح مليارات البشر اسيرة عبودية الإنترنت والموبايل، لانهما صارا المصدر الرئيس للعلم والمعرفة والتربية والوعي والأخلاق، فإن المجتمع البشري يدخل في مرحلة من العبودية لم يسبق لها مثيل حيث أصبح التحكم بالانسان من داخله هذه المرة ! لقد أشغل الغرب العالم طوال مرحلة ما بعد ثورة أكتوبر في روسيا بالحديث عن (الأخ الأكبر)، مثلا رواية (1984) تأليف جورج اورويل ،وعن النظام البوليسي الذي يراقب الناس في كل مكان، وكانوا يعتبرون ذلك عيبا خطيرا،ولكن إذا نظرنا الآن الى ما يفعله الغرب بأستخدام العلم ماذا نرى؟ نرى أن الغرب تجاوز الاتحاد السوفيتي بمراحل عندما نصب الكاميرات في كل مكان في كل زاوية من زوايا الشوارع والمعامل والمكاتب ومقدمات البيوت في كل لحظة !
العدد الضخم والمعقد من الكاميرات التي تراقب الناس الان بفضل استخدام الاختراعات العلمية لم يكن موجودا بهذا الحجم وبهذا المستوى في الاتحاد السوفيتي، بل لا يمكن المقارنة على الإطلاق، ولكن الأخطر من ذلك هو أن أستعباد الإنسان وصل إلى حد الدخول في جيناته وتعديلها والعمل على زرع شرائح في الدماغ للتحكم بالإنسان، وأجريت التجارب الفعلية على الخنازير والقردة وأخذت الخنازير والقردة تتصرف خارج طبيعتها بتأثير تلك الشرائح، وروج ذلك تحت شعار، كما قال إيلون ماسك، معالجة الأمراض المستعصية! نعم قد يكون بإمكان هذه الشرائح جعل من شل يستطيع المشي، ولكن هل هذا هو كل الموضوع؟ الجواب كلا، إن النتيجة المطلوبة من التدخل الجيني وزرع الرقائق أو الشرائح في جسد أو دماغ الإنسان هدفه السيطرة التامة عليه وسلبه حرية التفكير والقرار، ويترافق مع ذلك سلسلة تحولات في الجوانب الاقتصادية والمالية حيث تسير الدول الغربية بقيادة أمريكا نحو إلغاء النقود الورقية وجوازات السفر والهويات الفردية والاكتفاء برقائق أو شرائح تزرع في الجسم فيها كل المعلومات عن الإنسان : أرقام تليفوناته وعنوانه وحسابه البنكي وجواز سفره وهويته الفردية …إلخ، وبدون هذه الشرائح لا يستطيع أن يستخدم الطائرة ولا أن يسحب المال من البنك ولا أن يشتري من الاسواق !
إذن وصلنا إلى مرحلة من العبودية أصبحت فيها بضعة عوائل تتحكم بالبشرية وانكشفت لعبة الديمقراطية! وستكون الطامة الكبرى حينما يأتي الوقت لتحل الروبوتات محل البشر حيث يجري الآن العمل على قدم وساق لتطوير الروبوتات الحية ( السايبورغ :الانسان بعد ان زرعت فيه الشرائح فصار عبدا مسيرا ) وهي وصلت إلى مرحلة خطيرة في تطويرها، وأخذ بعض العلماء يحذرون من مخاطر تطوير الذكاء الاصطناعي والخوف عند الكثيرين هو أن هذه الروبوتات قد تسيطر على الكرة الأرضية وتبيد او تستعبد البشر ،فهل هذا العلم كما يتفاخر البعض به بقي علما كما كان في السابق يخدم الإنسان أم إنه أصبح عدوا له ويحتقره ويحاول إزالته من الوجود ؟
نأتي الان الى الغيبيات، انظروا ال واقعنا واسألوا: ما هي القوة التي هزمت اعظم امبراطورية قوة في التاريخ وهي الامبراطورية الامريكية ؟ أنها قوة الوطنية كما في فيتنام ، وقوة الوطنية مدمجة بالغيبيات الدينية، كما في حالة العراق وفلسطين في مقاومتهما للغزو الامريكي في العراق والغزو الصهيوني في فلسطين، وامامنا الان طوفان الاقصى وكيف ان الغيبيات وفرت قوة لاترد ولاتهزم وهي الايمان العميق بان المقاتل اذا استشهد يذهب للجنة، وهي فكرة غيبية دون ادنى شك، ولكنها وظيفيا توفر القدرة على الحاق الهزيمة بالمستعمر والمستغل والعدو ،غلبّت الغيبية الاستشهاد على حب الحياة من اجل الوطن، فهزمت امريكا في العراق امام المقاومة العراقية وتهزم اسرائيل الغربية الان امام المقاومة الفلسطينية، فهل نرى الان احد الجوانب الايجابية من الغيبيات الدينية ؟ الغيبيات توفر للانسان راحة الضمير والاساس العميق بالمسؤولية الاخلاقية وذلك من اهم شروط تحول الانسان الى طاقة جبارة تفنى ولاتهزم .
اقرأوا وصية الشهيدين صدام حسين ويحيى السنوار ستجدون ان القوة الاعظم وراء بطولاتهما هي الغيبيات الدينية وحب الوطن ،وتذكروا هشاشة الرئيسان المصري حسني مبارك والتونسي زين العابدين بن علي سترون ان جبنهما ناتج عن التعلق بعصر اللذة والعلم. التاريخ لايكتبه الهواة الذين يفتقرون للحد الادنى من الوعي الجدلي الشامل، اي الوعي الذي يكتشف الروابط الداخلية بين الاشياء، بل اولئك الذين يفهمون الالعاب الذكية للاعداء ويكشفونها مهما كانت مخفية.
ما لذي توصلنا اليه؟ إن الاقتران الزمني بين الأطروحات والأحداث الجارية الان له دلالات خطيرة من يتجاهلها أما إنه يفتقر إلى الوعي الشامل، وبالتالي ليس من حق أمثال هؤلاء البحث في القضايا الكبرى التي تقرر مصير البشرية، أو إنه يعرف وجود اقتران بين الحدث وبين الطروحات ويريد أن يروج من أجل وقوع الحدث الكبير الذي يجري ويدعمه بأدلة مزيفة من التاريخ أو بإسقاط المقدس!
لنذكّر بأهم الثوابت التي كانت وراء تقدم البشر وتنظيم علاقاتهم الاجتماعية والأخلاقية على الأقل:
أولا: إن الدين السماوي نقل البشرية من حالة التشتت بين آلهة ووحدهم حول ثوابت مقدسة ابرزها فكرة التوحيد، وابرز شيطانية الفساد والظلم ، فكان المقدس الديني هو الداينمو المحرك لبناء مجتمعات خرجت من عصر اوهام الشركية والظلم، وحتى بعد أن عزلت الكنيسة عن الدولة في الغرب نتيجة انحرافات الكنيسة فقد بقي الدين المسيحي والإسلامي واليهودي بيئة لحماية العائلة والمجتمع والقيم العليا، والدليل هو ما نراه الآن من إلغاء للأسرة ولمفهوم الزواج وترويج للشذوذ الجنسي وزواج الشواذ (وليس المثلية لانها كلمة تخفف بشاعة الشذوذ)، وظهور أبشع أنواع الانحرافات التي وضع حدا لها ظهور الديانات السماوية.
التشكيك بالديانات السماوية ومحاولة إسقاطها مصمم أساسا وتحديدا لتمهيد الطريق لعصر السقوط الأخلاقي والتفكك العائلي ومحو كل قيم عليا تتحكم بالبشر وتضبط مسيرتهم وتبقي لحمتهم قائمة ،وهو ما نراه الآن بصورة واضحة جدا، وهذه الحقيقة تضع ألف علامة استفهام على أولئك الذين يطالبون باعتبار الديانات السماوية الثلاث من صنع البشر وليست رسالات إلهية.
ثانيا: تطرح الان وبقوة غير مسبوقة مسالة أعادة كتابة التاريخ بطريقة تستهدف محو وإلغاء وجود أمة عربية بحضارتها وتاريخها وزرع الشكوك العميقة بصدق ما كتبه التاريخ العربي عن إنجازات العرب وهويتهم، وتظهر خطورة هذه الطروحات عند الانتباه لتوقيتها المرافق لقيام الدبابات الاسرائيلية والامريكية والايرانية بهدم اقطارنا وقتل الملايين وتهجير اكثر من 15 مليون عربي فقط من سورية والعراق ، فلا يبقى لنا من فهم سوى ان تلك الطروحات توظف لاكمال عمل الدبابات .ويتصل بذلك عضويا أن هذه الأطروحات تأتي مطابقة تماما،بل مستنسخة من التطلعات التوسعية الصهيونية والغربية والايرانية في الوطن العربي، فهي توفر حقا مزورا في احتلال كل الاقطار العربية خصوصا الجزيرة العربية، على اعتبار أنها المنطقة الحقيقية للتوراة كما يدعي البعض، او انها كانت في فترة ما تحت الاحتلال الفارسي،وبما أن فلسطين قد أصبحت أمرا واقعا،كما يعتقد هؤلاء،فإن الكيان الصهيوني سينطلق للتوسع في الجزيرة العربية، بينما تعزز اسرائيل الشرقية احتلالها للعراق وسورية واليمن ولبنان وتتحرك لغزو اقطار اخرى!
ثالثا: اما المقدس الدنيوي الذي ترفضه هذه الطروحات وتطالب بالتخلي عنه فهو الآيديولوجيات الثورية اليسارية والقومية والوطنية،التي كانت،وما زالت ،القوة الضاربة لحركات التحرر وانتصارات الشعوب وإلحاق الهزيمة بالاستعمار والغزو الخارجي، وكان اعظم انجازاتها هو اعتبار التحرر مقدسا، والتقديس شرط حاسم من شروط التضحية من أجله، وإلا لماذا التضحية من أجل غير المقدس؟ عندما يختفي الاستعداد للتضحية لايبقى من يقاوم الاحتلال بكافة اشكاله،ورفض المقدس بهذا التحديد الدقيق هو التوأم الجيني لكل انواع السقوط ،فما ان يظهر احتقار المقدس حتى نرى كل موبقات الارض ماضيا وحاضرا تتجمع فوق رؤوسنا وتسحقها بلا رحمة!من هنا فإن الدعوة لإلغاء المقدسات الدنيوية ليس سوى وسيلة أخرى لإفقاد الإنسان البوصلة وجعله حائرا بين اطروحة واخرى مناقضة لها ،وبالتالي متلقفا لأي حل آخر يسد فراغ الوعي الأصلي الذي دمر أو أضعف نتيجة هذه الطروحات.
وهنا مرة أخرى نرى الارتباط العضوي بين الدعوة لإلغاء المقدس والاستناد الى المنهج التجريبي في تحديد المواقف، وهو البديل المقترح للثوابت والمقدسات، وبين واقعنا الذي يشهد التدمير المبرمج لاقطارنا ومقاومة التدمير المنظم لامتنا يحتاج للوضوح التام في تحديد الاسباب والخيارات الكفاحية وهو مطلب حتمي يصادره الغاء المقدس فيرمينا في مستنقع العجز عن فهم ما يجري، وهو المطلوب من الاعداء.
ان الدعوة لالغاء المقدس الدنيوي والديني،في هذا الاطار ، تؤدي دورا خطيرا في التهيئة لقبول أفكار جديدة، تقوم على فكرة قطع العلاقة بالماضي وبكل ما كان يسمى مقدسات سواء كانت دينية أو دنيوية، وتبني البديل الجاهز الذي بلورته الثورة المعلوماتية وأداتها الأخطر الإنترنت والموبايل واللاب توب، وفي اللحظة التي يسقط فيها المقدس يصبح الانسان راكعا لعالم غريب يعجز عن فهمه نظرا للكم الهائل من التناقضات التي يروج لها الانترنيت، فنرى عشرات الاطباء مثلا يؤيدون لقاحات كورونا ولكننا نرى عشرات الاطباء أيضا يرفضون ذلك بقوة ، وكلهم اطباء معروفون !
انه تكتيك متعمد لوضع الانسان امام حيرة تامة تسمح بتقبله لاي حل ولو ساذج ! وهذا البديل عبارة عن تجهيل مبرمج بحقيقة ما يجري ودوافعه وقواه المحركة رغم الكم الهائل من المعلومات غير المترابطة والمتناقضة التي يحشو فيها الانترنيت العقول.
الخلاصة: نحن بأزاء خطة غربية صهيونية متكاملة لتجريدنا من أهم وأقوى أسلحتنا المعنوية وهو المقدس سواء كان دينيا أو دنيويا، والبشرية لم تحقق انتصاراتها بالعلم وحده بل بالنضال الثوري الذي أسقط احتلالات استغلت البشر واستعبدتهم كالرأسمالية التي حققت الإنجازات العلمية ثم انقلبت عليها وتحولت من ليبرالية إلى منهج إستعباد تام للبشر لم يحصل مثله في تاريخ البشرية.
وبناء على ما تقدم فإن التمسك الأشد مما مضى في القرون السابقة بالثوابت الدينية والدنيوية المقدسة هو شرط انتصار الإنسان على أبشع نظام تواجهه البشرية وهو النظام الذي يريد تحويل الإنسان إلى آلات منفذة،بل والاخطر تحويل البشر إلى أنصاف روبوتات، أو السايبورج.والمعادلة الثابتة عبر تاريخ الانسانية هي التالية: حينما يغيب المقدس يظهر المدنس،فهل نرى الان نتائج طروحات سطحية تشكك بتاريخنا وقوة اسناد صمودنا وهي ثوابت الدين والقومية والتاريخ ؟