لم تكن أعمال مؤتمر «التحولات الجيواستراتيجية وتداعيات صراع الأقطاب الخارجية على منطقة شمال إفريقيا» مجرد كلمات تلقى خلال فاعليات المنتدى على مدى يومين فى ضاحية «قمرت» بالعاصمة التونسية، ورغم ما تتسم به المنطقة من هدوء بصفتها ضاحية بعيدة نوعا ما عن العاصمة ووجهة سياحية ،
إلا أن سخونة المناقشات والمداخلات والتساؤلات أذابت هذه السمة عن «قمرت». واشتعلت قاعة المؤتمر أكثر وأكثر مع قرب إعلان اللواء دكتورمحمود خلف مستشار أكاديمية ناصر العسكرية إعلان توصيات المؤتمر، وبقدر براعته فى إدارة الجلسة النهائية، بقدر ما خرج المؤتمر ناجحا، ليتوج بمجموعة من النتائج ربما تعين صناع القرار فى جميع دول شمال إفريقيا فى تبنى رؤية أمنية وإستراتيجية للمنطقة.
وهنا يحسب للمركز الدولى للدراسات الإستراتيجية الأمنية والعسكرية ورئيسته منظمة المؤتمر الدكتور بدرة قعلول الاهتمام بتوسيع مجال المنطقة لتكون شمال إفريقيا بالكامل وليست حصرا على دول المغرب العربي، باعتبار أن مصر مكون رئيسى بالمنطقة وشريك فاعل فى أمنها الإقليمي.. ومنها كانت المشاركة المصرية هى الأكبر من حيث المتحدثين.
وبما أن تونس تعتبر الدولة الأولى فى عدد «الدواعش العرب» الذين لجأوا لتنظيم داعش الإرهابى فى سوريا والعراق، فقد باتت عودة بعض هؤلاء الى بلدهم قضية وطنية، كما أًصبحت محل اهتمام الإعلام التونسى رغم رفض المجتمع التام لعودة هؤلاء، ولسان حال التونسيين يقول لكل داعشى ذهب الى خارج بلاده ليقتل مواطنا عربيا أو يعذبه، ليبقى فى مقر هجرته أو ليعود الى تركيا التى وفرت لكل الدواعش العرب مكانا آمنا لدخول مناطق داعش فى سوريا والعراق..أما تونس البلد والوطن فهما فى غنى عن هؤلاء، ويكفى التونسيون مشقتهم النفسية بمجرد إعلان منفذ عملية دهس المواطنين الألمان فى برلين وقت انعقاد المؤتمر، فكم كانت صدمتهم لحظة علمهم أن القاتل تونسى وهو الذى قتل بعدها مباشرة لدى دخوله الأراضى الإيطالية.. وقد لوحظ عشية انعقاد المؤتمر ازدحام مقر الفندق الذى شهد فاعليات المنتدى بكاميرات الإعلاميين التونسيين الذين اهتموا بشدة بعقد لقاءات مع اللواءين محمود خلف مستشار أكاديمية ناصر، ومحمود خليفة المستشار العسكرى لجامعة الدول العربية، وتركزت أسئلة المذيعين عن مدى تقبل المصريين لتوبة الإرهابيين وإعادة اندماجهم فى المجتمع؟..ورغم انفراد المذيعين بكل ضيف على حدة، إلا أن إجابات اللواءين محمود خليفة ومحمود خلف كانت عبارة عن رفض قاطع لقبول توبة هؤلاء، فالوطن لم يعد مكانا لهم ويكفى عملياتهم الإرهابية الخسيسة التى تئن لها مصر.
أعداد الدواعش العرب فى تنظيم داعش الإرهابى أشار اليها الباحث مهدى مطاوع من مركز دراسات الشرق الأوسط فى ورقته أمام المؤتمر التونسى «الشبكات الافتراضية كأداة للجماعة الارهابية» ، وقال فيها إن تنظيم داعش نجح فى استقطاب أكثر من 3000 مغربي، و5000 تونسي، للقتال فى سوريا والعراق،
نعود الى المؤتمر الذى بدأ بكلمة الدكتورة بدرة قعلول رئيس المركز الدولى للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية، حذرت فيها من تنامى ظاهرة الارهاب فى منطقة شمال إفريقيا، نتيجة سقوط دول بعد مرحلة الربيع العربي، والذى يهدد دولا أخرى بهذا المصير. وركزت رئيس المركز فى كلمتها على ٣ محاور، هى الأهمية الاستراتيجية لشمال إفريقيا حيال صراع وتنافس الأقطاب العالمية على المنطقة، وتداعيات هذا الصراع، ومستقبل المنطقة وأهم تطلعاتها.
وبينما شدد اللواء خلف خلال شرحه لأبعاد الاستراتيجية العربية، على ضرورة التشخيص المبكر للصراع فى منطقة شمال إفريقيا حتى لا يتحول التحدى الى مرض، وأنه لابد من الجراحة والعلاج المبكر.. قدم السفير محمد العرابى وزير الخارجية الأسبق أول مداخلة بالمؤتمر وحملت عنوان «شمال إفريقيا فى ظل تطورات إقليمية ودولية غير مسبوقة»، ووصف فيها المنطقة بأنها «مشدودة الى درجة التمزق» نظرا لما تمر به من ظروف صعبة لم تشهدها المنطقة على مر تاريخها. وحذر العرابى من بعض الظواهر الجديدة التى تشهدها المنطقة، ومنها الإرهاب العابر للحدود، والفلسفة الجديدة للإرهاب التى تخدم الإستراتيجية الغربية، بما يؤدى الى تقويض الدولة التقليدية، وزعزعة فكرة الجيش التقليدي. وضرب مثلا على ذلك بأن الجماعات الإرهابية أصبحت تتسلح بأسلحة متقدمة تواجه بها الجيوش التقليدية.
ولعل من المداخلات المهمة التى حظى بها المنتدي، مداخلة د. حسن أبوطالب المستشار بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، وجاءت بعنوان «مستقبل الدور المصرى فى تشكيل النظام الإقليمي». مصدر أهمية المداخلة إنها حددت حجم المخاطر التى تهدد إقليم شمال إفريقيا، ولم يترك أبو طالب توصيفه لهذه المخاطر دون وضع الآليات الكفيلة بتجاوزها والتغلب عليها. ويتمثل أول الحلول أو مبادئ المواجهة حسب وصفه، فى ضرورة الخلاص الجماعى من تلك المخاطر، فهذا هو الحل لمواجهة التكالب على المنطقة وليس الخلاص الفردي.
ولم يترك أبو طالب الأمور لتكون مجرد كلمات تلقى هنا وهناك، حيث كان حريصا على توجيه انتقاد لدول شمال إفريقيا : «كونها مقصرة فى حق نفسها، رغم تميزها بخصائص اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية ومجتمعية تجعلها مؤهلة للتكامل الإقليمي..ولكنها لا تهتم كثيرا بتطوير آليات تكاملها الذاتي». ثم يعود مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، الى توصيف محدد لتحديات المنطقة العربية ككل، فيراها واحدة ويتلخص جوهرها فى تحدى وجود الدولة الوطنية ذاتها من أجل مشروعات التقسيم والتفكيك ودوامة الطائفية والمذهبية والتطرف الفكرى والارهاب والعنف، والإجهاز على الطموحات المشروعة لشعوب ومجتمعات تلك المنطقة فى التنمية والكرامة الانسانية، ومن ثم إخضاعها جميعا تحت مظلة دوائر وقوى خارجية يهمها أن تضمن مصالحها الذاتية على حساب مصالح العرب جميعا.