أبرز ما فى مشهد مذبحة الملهى الليلى فى إسطنبول ليلة الكريسماس أنه ترك ذكرى مؤلمة للرئيس التركى رجب طيب أردوغان بشأن مواجهته خطرا ثلاثى الأبعاد فى عام 2017، وهو نفس العام الذى يسعى فيه أردوغان حثيثا لتوسيع صلاحياته بصورة غير مسبوقة.
والمثير فى لقطة تنفيذ العملية الإرهابية الأخيرة الذى قيل إن مرتكب الجريمة ارتدى ملابس «بابا نويل» أثناء تنفيذ الحادث، رغم نفى السلطات التركية لذلك، أنها جاءت بمثابة مشهد واقعى يعبر بوضوح عن النتيجة الطبيعية لسياسة الأرض المفتوحة التى اتبعها نظام أردوغان مع تنظيم داعش من أجل تدمير سوريا وإرهاب أوروبا، حيث كان واضحا أن التنظيم بدأ «يعض اليد» التى امتدت به وصنعته ودعمته منذ البداية، فقد جاءت عملية الملهى انتقاما لضياع الأراضى والمغانم فى حلب السورية عقب تطهيرها من جيوب الإرهابيين وسيطرة الجيش السورى على مفاتيحها بفضل الدعم العسكرى الروسى وانضمام تركيا إلى هذا المثلث المدمر لأحلام وتطلعات «داعش» فى بسط نفوذه وبناء كيانه على أرض سوريا.
وسبقت مذبحة اسطنبول عدة عمليات فى النصف الثانى من ٢٠١٦ زرعت الرعب فى الشارع التركى وخلقت حالة من الفوضى وعدم الاستقرار الأمني، كالهجوم على حفل الزفاف فى غازى عنتب، ثم استهداف مطار أتاتورك، وصولا إلى وضع مقر للشرطة قرب ملعب بشيكتاش فى مرمى نيران الإرهاب، وآخرها جريمة اغتيال السفير الروسى أندريه كارلوف فى أنقرة، والتى اتخذت بعدا أكبر فى معركة أردوغان مع الإرهاب باعتبارها رسالة من داعش بأن تحالفات تركيا الكبرى صارت هى أيضا صيدا ثمينا لرصاص عناصر التنظيم فى ظل ما تمثله هذه التحالفات من سلاح دولى يحاول حرمان داعش من أهدافه، بل والقضاء عليه نهائيا، بعد أن كان التنظيم الإرهابى «حصان طروادة» الذى اختبأ خلفه أردوغان فى البداية للتخلص من الرئيس السوري، والآن أدار له ظهره من أجل إرضاء الدب الروسي.
وإلى جانب داعش أيضا وتحديات مواجهته، يرتفع صوت الأكراد أمام سطوة أردوغان وسيناريوهاته المتنوعة لترويض حزب العمال الكردستانى وتحجيم وجود الكتلة الكردية منعا لتجديد حلمهم فى الدولة المستقلة، وتتصاعد المخاوف من لجوء الأكراد إلى تصدير الصراع مع أردوغان وجماعته نحو الداخل بعد أن دأب الرئيس التركى على محاصرتهم عند حدود العراق وسوريا، وبالتالى اتجهت أنظار خصوم السلطان العثمانى الجديد إلى الرد على مخططاته عمليا بالدم والنار فى ميادين وشوارع المدن التركية لضرب السياحة فى مقتل وإجباره على تغيير المسار الخارجى الذى رسمته صفقاته مع الكبار، إلى الحد الذى دفع وزارة الخارجية الأمريكية إلى التحذير منذ شهرين تقريبا من أن «الجماعات المتطرفة ستواصل الجهود العدوانية لمهاجمة مواطنى الولايات المتحدة فى مناطق إقامتهم باسطنبول أو الأماكن التى يرتادونها، فضلا عن المناشدات الدولية بمغادرة أنقرة تحسبا لأى هجمات إرهابية محتملة.
ولا يخفى على أحد أن الزلزال العسكرى الذى هز عرش أردوغان فى منتصف يوليو الماضى بمحاولة الانقلاب الفاشلة قد ترك بصماته على أداء الحكومة التركية مع الأزمة، خصوصا مع حملة الاعتقالات العشوائية التى طالت أجهزة الدولة من الجيش والشرطة والقضاء والإعلام، وكان هذا الإجراء العنيف كفيلا بتغذية شعور الاضطهاد لدى أعداء أردوغان واستفزازهم للمشاركة فى عمليات إرهابية أخرى تهدد أركان حكمه مجددا، ليستغل الفارون من «مقصلة» الانتقام معرفتهم وخبرتهم بالمنشآت الحيوية فى البلاد، ومن ثم يساعدون فى تهيئة المسرح لمزيد من الهجمات الدموية وتحديدا فى الأماكن التى تشهد كثافة سياحية كبرى من مختلف الجنسيات وفى توقيتات معينة مثلما حدث فى المذبحة الأخيرة، ليظل المواطن التركى أسيرا لمشاهد الفزع والموت التى تطارده يوما بعد يوم نتيجة مقامرات وجبهات أردوغان المتوازية والتى لا يقبل التفريط فيها على الإطلاق.
وتتزامن هذه التطورات الدرامية مع سؤال مهم طرحه المؤرخ الأكاديمى مارك ألموند فى مقال بصحيفة «ديلى تليجراف» البريطانية وهو : «هل تتحول تركيا إلى رجل أوروبا المريض؟»، موضحا أن الوضع الحالى غاية فى الخطورة، بالرغم من أنها تحت قيادة أقوى رئيس فى تاريخ البلاد منذ انقلاب ١٩٨٠، بل ومنذ عهد أتاتورك نفسه، إلا أنه لا يستطيع استغلال السلطات والصلاحيات التى يسيطر عليها جميعًا فى حل مشكلات الدولة من واقع انغماسه فى سياسة احتكاره للسلطات، كما أن أزمات عدة مثل القتل العشوائي، والهجمات الانتحارية، وخروج كافة الأكراد فى المناطق الجنوبية الشرقية عن السيطرة وأهدافها، وتحركات تنظيم فتح الله جولن ضاعفت مؤخرا من حدة التهديدات التى قد تقوض مستقبله السياسي.
ويؤكد ألموند أن توسيع رقعة صراعات أردوغان انعكس سلبا على الاقتصاد التركى ليعيش مرحلة السقوط والتراجع السريع بعد مرحلة النتائج المبهرة تحت وطأة الحروب فى سوريا والعراق من ناحية، والهجمات الإرهابية التى تجتاح تركيا وصارت السياحة أكبر ضحاياها وخسائرها من ناحية أخرى، وتلقى السلطات التركية عادة باللوم فيها على مثلث داعش والأكراد وجولن.
لقد انهالت «هدايا» الإرهاب على رأس أردوغان وتكاثرت الأيادى التى ترغب فى خنق نظامه وسط سلبية أوروبية وعزوف أمريكى عن مساندته وصمت من الحليف الروسى الجديد، ويقتضى الموقف من الرئيس التركى ورجاله قدرا أكبر من المرونة والذكاء السياسى عند مواجهة أطراف الصراع بكل أشكالهم لكيلا يصبح ٢٠١٧ جزءا ثانيا من أعوام «العنف والدم» فى بلاد الأناضول!