انتهى الدرس يا «….» ! . هذا ما أراد الرئيس فلاديمير بوتين قوله لنظيره الأمريكى اوباما قبيل رحيله عن البيت الأبيض، من خلال بيانه الذى رفض فيه استخدام حق روسيا فى معاملة واشنطن بالمثل، ردا على قرارها بشأن طرد 35 من الدبلوماسيين الروس وعائلاتهم بما يرفع العدد عمليا الى 96 روسيا، ودحض ما تزعمه الإدارة الأمريكية حول «ارتكابهم لأعمال قرصنة الكترونية إبان الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة».
قال بوتين فى بيانه «ان موسكو تحتفظ لنفسها بحق الرد على العقوبات الأمريكية الجديدة ضدها فى الوقت والمكان المناسبين، لكنها لن تنحدر الى مستوى ادارة الرئيس الأمريكى أوباما والذى وصفه بـ «دبلوماسية المطابخ غير المسئولة». واضاف الرئيس الروسى «ان بلاده لن تخلق مشاكل للامريكيين، وانها لن تطرد أيا من الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين فى أراضيها ردا على قرار واشنطن، بل ستنتظر خطوات الإدارة الجديدة، التى ستتسلم مقاليد السلطة يناير الجاري، لاتخاذ القرارات حول مستقبل العلاقة مع واشنطن». ومضى بوتين الى ما هو ابعد ليقول انه لن يغلق ولن يصادر ايا من المجمعات والمقار التى تمتلكها السفارة الامريكية فى موسكو والمخصصة لراحة وخدمة الدبلوماسيين الامريكيين وافراد عائلاتهم ردا على قرار مماثل، وانه يدعوهم واطفالهم الى احتفالات الكرملين باعياد الميلاد.
وفيما وصف بوتين الخطوات غير الودية الجديدة من جانب الإدارة الأمريكية التى تنتهى ولايتها فى يناير الجاري، بأنها استفزاز يستهدف مواصلة نسف العلاقات الروسية الأمريكية، اعلن عن إرجاء الاعلان عن القول الفصل بهذا الشأن مشيرا الى «انه سوف يتخذ خطواته المستقبلية لإعادة تطبيع العلاقات الروسية الأمريكية انطلاقا من السياسية التى ستمارسها إدارة الرئيس دونالد ترامب». وقال ان ما فعلته ادارة اوباما «يتعارض بشكل واضح مع المصالح الأصيلة للشعبين الروسى والأمريكي، ويضر بمجمل العلاقات الدولية، وفى السياق ذاته نشير الى ان سيرجى لافروف وزير الخارجية الروسية، وعلى غير العادة فى مثل هذه الحالات، كان قد حرص بنفسه على اعلان انه سوف يتقدم الى الرئيس بوتين وبموجب مبدأ «المعاملة بالمثل» فى العلاقات الدولية، باقتراح اعلان 31 من اعضاء السفارة الامريكية فى موسكو، واربعة من اعضاء القنصلية العامة للولايات المتحدة فى سان بطرسبورج «كشخصيات غير مرغوب فيها» يجب عليهم مغادرة الاراضى الروسية، قبل حلول بداية شهر يناير 2017، وهو ما كان يفعله المتحدث باسم الخارجية الروسية وليس وزير الخارجية. وردا على ادراج عدد من الهيئات الروسية ضمن دائرة العقوبات ومنها جهاز المخابرات الروسية، والمخابرات العسكرية التابعة لهيئة الاركان الروسية، وحظر استخدام عدد من المجمعات السكنية، التى يستخدمها الدبلوماسيون والعاملون الروس فى ولاية ميريلاند ونيويورك، اعلن لافروف ايضا عن حظر استخدام المقار المماثلة التابعة للسفارة الامريكية فى موسكو. واشار الوزير الروسى الى عدم صحة ما وجهته الادارة الامريكية من اتهامات وصفها بانها «لا اساس لها»، وقال ان الادارة الامريكية تحاول تعليق فشلها فى السياسة الخارجية، وكذلك فشل مرشح الحزب الديموقراطى فى الانتخابات الرئاسية الاخيرة، على موسكو.
وفى هذا الصدد نتوقف لنشير الى لافروف الذى قال انه «سوف يتقدم باقتراح»، ولم يقل «ان موسكو قررت»، كما هو العادة ما يعنى ان سيناريو الاعلان عن الموقف الرسمى لموسكو، كان متفقا عليه بين الرئيس واركان نظامه وبما تنتظر معه موسكو ارباك الادارة الامريكية وفضح «سوء سلوكها وغباء قرارتها»، على حد قول مراقبين محليين. وفى اطار «السيناريو» نفسه، واضافة الى ما اعلنه لافروف، كان رئيس الحكومة دميترى ميدفيديف قد حرص ايضا على التعليق على قرار واشنطن، وهو ما لم يكن يحدث فى مثل هذه الحالات، حيث سارع بإدانة ذلك القرار على صفحته الرسمية على موقع «فيسبوك»، بكلمات ساخرة، قال فيها انه «من المؤسف أن إدارة أوباما، التى بدأت بإعادة العلاقات بين البلدين، لتنهى ولايتها فى عذاب معاداة روسيا، (ارقدوا فى سلام، اما دميترى بيسكوف المتحدث الرسمى باسم الكرملين فقد أعرب عن اسفه تجاه اتخاذ واشنطن لمثل هذا القرارات التى وصفها بانها «لا مبرر لها وتلحق ضررا كبيرا بمواقع الإدارة المقبلة على صعيد السياسة الخارجية». مشيرا الى ان «موسكو لا تعلم ما إذا كان ترامب يوافق على هذا النمط من السلوك، لكن الكرملين يرى محاولات واضحة لفرض نهج معين على الإدارة الأمريكية القادمة. اذن كانت أعين الكرملين على الرئيس الامريكى الجديد، بعد ان فقدت الامل على مدى سنوات طويل من اى تحسن فى ظل ادارة اوباما. وكانت «الجارديان» اللندنية قريبة من هذه الاستنتاجات، حين قالت «ان قرار الرئيس بوتين اتسم بالهدوء الشديد وانه يبدو محاولة لعقد صداقة جديدة مع الرئيس المنتخب دونالد ترامب». وذلك تقدير نبدو على يقين من ان الكرملين يريد البناء عليه، كمقدمة للانطلاق نحو ما يحدوه من آمال فى تحسين العلاقة مع البيت الابيض بعد ثمانى سنوات «عجاف»، على حد قول كثيرين من ممثلى دوائر صناعة القرار فى العاصمة الروسية. وكانت «وول ستريت جورنال» الامريكية وفى تعليقها على ذلك كتبت تقول « ان واحدا من الوعود الانتخابية التى اطلقها الرئيس المنتخب دونالد ترامب يتلخص فى انه سوف يعمل على تطبيع العلاقات مع روسيا لتحويلها من خصم قديم الى حليف فى مواجهة شبكات الارهاب والاخطار العالمية التى طالما اربكت الرئيس اوباما». وكانت موسكو اعلنت رسميا اكثر من مرة انها تنشد التعاون مع الرئيس الامريكى الجديد فى مواجهة اخطر تحديات العصر والتى حددها الجانبان بالارهاب الدولى وتنظيمات «داعش» وغيرها من الجماعات الارهابية. واعربت موسكو كذلك عن ارتياحها مما قاله ترامب حول عدم اصراره على رحيل الرئيس السورى بشار الاسد على اعتبار ذلك مقدمة مناسبة توفر الأرضية المشتركة للتعاون فى تحقيق التسوية السلمية فى سوريا وترك مصير الأسد ليقرره الشعب السورى فى انتخابات ديموقراطية تحت اشراف دولي. كما يتذكر المراقبون ما قاله ترامب حول انه سوف يعترف بالقرم جزءا من روسيا ما دام اهلها اعربوا فى استفتاء شعبى حقيقى عن رغبتهم فى ذلك. وبهذه المناسبة يشير هؤلاء الى نصيحة هنرى كيسينجر مستشار الامن القومى الامريكى الاسبق والذى كان ضمن قدامى السياسيين الذين استعان بهم ترامب فى حملته الانتخابية، باعتماد مثل هذا التوجه، وثمة من يقول ان كيسينجر الذى طالما ارتبط بالرئيس بوتين بعلاقات يعود تاريخها الى تسعينيات القرن الماضي، يمكن ان يكون حلقة اتصال جيدة بين الرئيسين بوتين وترامب فى الفترة المقبلة.
ومع ذلك ، ورغم كل ذلك ، فانه يكون من السابق لأوانه تعجل الاستنتاجات المفعمة بقدر كبير من التفاؤل تجاه مستقبل العلاقات بين الزعيمين فى الفترة القريبة المقبلة، نظرا لأن هذه المسألة تظل متعددة الأبعاد والجوانب التى يتعلق معظمها بالمؤسسات الامريكية القائمة ومنها الكونجرس الامريكى ووزارة الدفاع والبنتاجون. واذا اضفنا الى كل ذلك ما سبق وأن اعلنه ترامب حول انه يريد امريكا قوية عظمي، وكذلك حول دعم قدراتها النووية، وهى امور تصطدم بما سبق وأن اعلنه بوتين حول رفضه لانفراد قوة بعينها بالقرار الدولى ورفضه لعالم القطب الواحد، فاننا نكون امام الكثير من الخيارات التى تقول ان الابواب سوف تظل مُشْرَعة على كل الاحتمالات، ومنها ما يتعلق بالصين وعلاقاتها مع كل من روسيا والولايات المتحدة، وتلك «قصة اخري» قد نعود اليها بعد تولى دونالد ترامب لمقاليد الحكم فى البيت الابيض فى العشرين من يناير الجاري، على ضوء ما كشف عنه ترامب من مواقف تحمل الكثير من التحفظات تجاه سياساتها وطموحاتها، فى الوقت نفسه الذى يعلق فيه بوتين على الصين الكثير من آمال التقارب وتوحيد القوى وتنسيق السياسات على الصعيدين الاقليمى والعالمي.