خلفية تاريخية: لا تزال سوريا حتى الآن فى ذاكرة أجيال من المصريين الذين عاشوا وعاصروا تجربة الجمهورية العربية المتحدة، التى كانت نتاج الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا، هى الإقليم الشمالى من ذلك الكيان، الذى أنتجته الوحدة، والأمر لا يتوقف فقط على مجرد «الذاكرة»، بل يتجاوزه إلى حدود التضامن والتعاطف مع ذلك البلد العربى الشقيق، الذى يواجه محنة ممتدة، عبر هذه السنوات الخمس الأخيرة، وقد وجد هذا التعاطف والتضامن مع سوريا طريقة للتأثير فى الموقف المصرى من الأزمة فى سوريا، إزاء معاناة سوريا الدولة والشعب، وضرورة اتخاذ موقف مبدئى يترجم هذا التعاطف وتلك المساندة رغم اختلافه مع مواقف العديد من القوى الإقليمية والدولية.
من ناحية أخرى وإذا ما تجاوزنا هذه التجربة الوجدانية التى ربطت بين الشعبين المصرى والسورى، وبين دوليتهما، فإن سوريا هى بلا أدنى شك بوابة مصر على المشرق العربى، ومنفذ تأثيرها فى الإقليم العربى المشرقى، ومسرح دورها الإقليمى والعربى، خاصة بعد إلغاء خط السكك الحديدية الذى كان يربط بين مصر وسوريا، وبعد إعلان قيام دولة إسرائيل فى 15 مايو عام 1948، وفضلا عن ذلك فإن سوريا تدخل فى صلب اعتبارات الأمن القومى المصرى والعربى، ويمثل انهيارها أو تفككها إلى دولايات طائفية، خطرا على المنطقة ككل، وعلى مصر وأمنها القومى، نظرا للمصالح السياسية والاستراتيجية المرتبطة ببقاء سوريا الدولة وسوريا الموحدة.
تطور الموقف المصرى
من الأزمة السورية
على أساس هذه الاعتبارات التاريخية والاستراتيجية وتلك التى تتعلق بالأمن، يتحدد الموقف المصرى من الأزمة السورية منذ بدايتها وحتى الآن، بل لم تغب عن الموقف المصرى الرسمى تلك الركائز والاعتبارات حتى فى أحلك الظروف وأكثرها اضطرابا، رغم أن ظاهر الموقف والتعبير عنه قد لا يعبر عن ذلك بوضوح وفق طبيعة المراحل التى مر بها تبلور الموقف المصرى الرسمى.
ترافق ظهور الأزمة السورية منذ بدايتها مع التداعيات السياسية التى رافقت وواكبت ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، وشهدت هذه المرحلة عدم استقرار فيما يتعلق بمؤسسة صنع السياسة الخارجية المصرية والدبلوماسية المصرية تمثل فى تولى هذه المهمة أربعة وزراء خارجية تعاقبوا على رأس الخارجية المصرية.
ومع تطور الأزمة السورية واحتكام أطرافها إلى العنف والسلاح، ازدادت حدة المواقف الإقليمية والدولية، بفعل تفاقم الأوضاع الإنسانية وفرض العقوبات الدولية، وفى هذه المرحلة ابتعد الموقف المصرى الرسمى عن الصمت، وأعلن رفض الحلول الأمنية وضرورة إيجاد حل سياسى للأزمة يرتكز على الحوار الوطنى ويضم جميع القوى السياسية ورفض التدويل، وهذا الموقف وإن كان أفضل من الصمت والحذر الذى ميز الموقف المصرى فى بداية الأزمة، إلا أنه كان أقل من المأمول مقارنة بالمواقف الإقليمية والدولية الأخرى التى أفصحت عن نفسها بلا مواربة وعلانية.
وفى تطور لاحق دفعت تطورات الأزمة السورية إلى دخول جامعة الدول العربية على الخط، واتخذ الموقف المصرى من مواقف وممارسات الجامعة العربية نقطة انطلاق جديدة، وكان الثقل الأكبر فى رسم وتوجيه جامعة الدول العربية وقراراتها للدول الخليجية، وقد لعبت هذه الدول دورا حاسما فى تحديد البوصلة العربية إزاء الأزمة السورية، نظرا لما يحظيان به من ثقل مادى وسياسى، وامتلاك أوراق فعلية على الأرض، إن فى سوريا أو فى الساحة العربية، فى حين أن مصر وجدت نفسها وجها لوجه مع ميراث يتراكم من المشكلات السياسية والاقتصادية وانفجار التطلعات، واتساع حقل السياسة والصراع السياسى، وقد انتهى الموقف العربى بتجميد عضوية سوريا فى الجامعة العربية رغم اعتراض مصر ولبنان والجزائر وموريتانيا والعراق.
فى مرحلة السيطرة الإخوانية فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى، تم قطع العلاقات بين مجلسى الشعب المصرى والسورى، فى 7 فبراير عام 2012، وأعقب ذلك استدعاء السفير المصرى فى سوريا للتشاور فى 19 فبراير من نفس العام، وأنهت وزارة الخارجية عمله فى 1 يوليو عام 2012، وتم تخفيض التمثيل الدبلوماسى بسفارة مصر فى سوريا إلى مستوى مستشار.
وباستكمال حلقات السيطرة الإخوانية على مقدرات البلاد بانتخاب مرشح الإخوان المسلمين د. محمد مرسى لرئاسة الجمهورية، اتخذ الموقف المصرى أبعادا جديدة، وإن ظل فى إطار الموقف العربى الذى تبنته جامعة الدول العربية، بتأثير الدول الخليجية، وزاد على ذلك إعلان الرئيس المخلوع محمد مرسى الجهاد فى سوريا فى المؤتمر الذى سبق خلعه بأيام.
ويمكن القول أن هذا المؤتمر الذى أعلن فيه الجهاد فى سوريا، من قبل الرئيس الإخوانى أنه كان أحد الأسباب الرئيسية التى ساهمت فى خلع مرسى والثورة الشعبية عليه، لأن هذا المؤتمر كشف عن النية الحقيقية فى انخراط ودفع مصر وتورطها فى الأزمة السورية، وتجاهل اعتبارات الأمن القومى المصرى الداخلى والخارجى على حد سواء، حيث فهمت الإشارة التى انطلقت من هذا المؤتمر من قبل المؤسسة العسكرية والأمنية المصرية على المحمل الصحيح، أى فتح باب الجهاد فى سوريا من قبل الإخوان وحلفائهم، وهو ما يعنى تطوع عشرات الآلاف للجهاد فى سوريا ومساندة القوى السلفية والجهادية فى سوريا، ثم تواجه مصر عقب انتهاء الأزمة بمشكلة «العائدين من سوريا» على غرار العائدين من «أفغانستان» وأولئك العائدون من الشيشان أو ألبانيا أو ما شابه ذلك، وفى ذلك تهديد متوقع للأمن القومى المصرى، فضلا عن تجاوز الخطوط الحمراء التى تفرضها اعتبارات الأمن القومى العربى والمصرى على حد سواء.
ولقد ساهم هذا الموقف الإخوانى من سوريا الذى يقدم باسم مصر فى تعميق السخط على النهج الإخوانى فى الحكم، مع تصاعد موجات السخط والغضب من جراء الاستئثار بالسلطة من قبل الإخوان ومخالفة وعودهم للقوى المدنية، وتحصين الرئيس الإخوانى لقراراته ضد سلطة القضاء والرقابة.
موقف مصر
بعد الثلاثين من يونيو
بعد ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013 وعزل الرئيس الإخوانى وإعلان خريطة طريق انتقالية، وبدء بناء مؤسسات الدولة، وإجراء تعديل دستور 2012، وانتهاء بانتخاب عبد الفتاح السيسى رئيسا لمصر، استطاعت مصر أن تعيد بناء موقفها الرسمى من الأزمة السورية بطريقة أكثر وضوحا وأكثر تماسكا.
فقد استعادت الدولة المصرية بعد بناء مؤسساتها التنفيذية والتشريعية عافيتها، رغم دخولها فى موجة إرهابية عاتية لا تزال مستمرة، وإن ضعفت قوتها عن ذى قبل، كما تحررت الدولة من السيطرة الإخوانية والسلفية، وهو ما يعنى قدرة الدولة على استعادة دورها وإعادة بناء موقف جديد، أو بالأحرى التعبير عن موقفها بطريقة أوضح لا تحتمل الغموض واللبس.
هكذا حددت مصر موقفها من الناحية المبدئية والنظرية على الأقل فى مبدأ وحدة الأراضى السورية، وعدم السماح بتفكيكها إلى دويلات طوائف أو أقليات، وفى مبدأ دعم الدولة السورية ومؤسساتها، وخاصة الجيش الوطنى السورى ومبدأ الحل السياسى للأزمة واستبعاد الجماعات الإرهابية من الحل، ومشاركة القوى المعارضة المعتدلة، وقد أكد الرئيس عبد الفتاح السيسى مؤخرا فى حديثه لوسائل الإعلام البرتغالية حرص مصر على دعم الجيوش الوطنية كالجيش الليبى والجيش السورى، باعتبار هذه الجيوش العامود الفقرى لتأسيس الدولة الوطنية.
وقد أيدت مصر علنا التدخل العسكرى الروسى لدعم النظام والجيش السورى ضد المعارضة، ولم تمنع علاقات مصر العربية بدول الخليج، من انحياز مصر وتأييدها لهذا التدخل الروسى فى سوريا لصالح الدولة والنظام والجيش فى سوريا فى مواجهة الإرهاب والمعارضة الإرهابية.
أفضليات الموقف المصرى
ومن الواضح حتى الآن أن الموقف المصرى يحظى حتى الآن بقابلية دولية، رغم اختلاف القوى الإقليمية، وأن المبادئ والأسس التى يرتكز عليها هذا الموقف تترسخ وتحظى بقبول واسع، وتثبت التجربة والزمن مبدئية الموقف المصرى وثباته على هذه المبادئ والأسس، وذلك رغم أن مصر حتى الآن لا تمتلك أوراقا فعلية على الساحة السورية، فلا هى تمول المعارضة ولا تسلحها، ولا تشارك فى ذلك بعكس بعض الدول الإقليمية العربية وغير العربية، التى تمول علنا أنشطة المعارضةوتقوم بتسليحها وإمدادها بالمؤون والذخائر والأموال على غرار تركيا وبعض الدول الأخرى ومع ذلك فإن افتقاد مصر للأوراق والموارد للعب دور نشط فى الساحة السورية، قد يعوضه الأفضلية الأخلاقية التى تميز الموقف المصرى، دونا عن بقية الأطراف الإقليمية والدولية، ذلك أن مصر لم تنخرط فى الأزمة السورية كما فعلت دول أخرى ولم تزود أحدا من الأطراف بأسلحة أو معدات أو أموال على غرار ما فعلت دول أخرى، بل اتخذت موقفا مبدئيا يتمثل فى الحفاظ على الدولة السورية ووحدة أراضيها ودعم مؤسساتها الوطنية.
لقد وجدت مصر نفسها فى الموقف من الأزمة السورية فى مواجهة دول حلف بغداد، إيران وتركيا والعراق ولكن بأدوار جديدة، ومع ذلك فإن أفضلية الموقف المصرى واضحة، فمصر ضد تقسيم سوريا، فى حين أن بعض الأطراف لا تمانع فى هذا التقسيم عربية أو غير عربية، كما أن مصر ليس لها مطامع فى سوريا، كما هو الحال مع تركيا مثلا التى تطمح إلى السيطرة على منطقة آمنة شمال سوريا. من ناحية أخرى فإن مصر ورغم تأييدها الواضح للتدخل العسكرى الروسى فى سوريا، فإن دعمها لهذا التدخل لم يمنعها من المشاركة فى تقديم صيغة قرار مع دول أخرى بمجلس الأمن لوقف إطلاق النار، لمدة عشرة أيام، لتسهيل تقديم المساعدات الإنسانية لأهالى حلب والمواطنين السوريين ولم يحظ هذا الموقف برضا روسيا وانتقدته ووصفته بالموقف «المستفز»، وذلك يعنى أن مصر لم تتجاهل البعد الإنسانى والمأساوى فى الأزمة السورية وضحاياها من المدنيين، لا على أرضها ولا فى سوريا ذاتها، فهى تستقبل أعدادا متزايدة من اللاجئين السوريين وتعاملهم معاملة المواطنين المصريين، كما أن تأييدها للموقف الروسى لا يجعلها فى حالة تبعية أو يفقدها الاستقلالية، وفضلا عن ذلك أو بالإضافة إلى ذلك فإن مصر عبر موقفها من الأزمة السورية، قد تجاوزت عقدة «الأسد» التى تقف عائقا أمام الحل السياسى للأزمة، وتتمسك بها العديد من الأطراف الإقليمية والدولية، وترى أن «بقاء» الأسد أو رحيله فى مرحلة انتقالية أو غير انتقالية، هو شأن السوريين، أى يقرره السوريون ضمن اتفاق شامل يكفل وحدة الأراضى السورية والحفاظ على الدولة ومؤسساتها ويضمن تحقيق تطلعات الشعب السورى.
هكذا زاوجت السياسة الخارجية المصرية والدبلوماسية المصرية فى الموقف من الأزمة السورية بين المبادئ والأسس والمرتكزات المتعلقة بالرؤية الاستراتيجية، وبين المصالح، إن تلك المتعلقة بالأمن القومى المصرى أو تلك المتعلقة بالأمن القومى العربى وكذلك المصالح المصرية والعربية، وهى رؤية تنطوى على أبعاد تستشرف الحاضر والمستقبل على حد سواء.
أفق وتطور الموقف المصرى
ورغم تطور الموقف المصرى من الأزمة السورية، فإنه لا يزال حتى الآن يقف فى حدود «الأفق الأمنى»، ومع ذلك فإن الطريق مفتوح لتطور هذا الموقف على ضوء استيعاب الرأى العام المصرى للرؤية الاستراتيجية التى يستند إليها وتعزز توجهات الدولة المصرية من قبل الفاعليات المدنية والسياسية والمنظمات الشعبية دون إغفال حق الشعب السورى فى التطلع إلى المشاركة السياسية وإعادة صوغ توجهات النظام السورى بما يتوافق مع هذه التطلعات.
ويبقى بعد ذلك أن المنطقة تموج بمشروعات سياسية وإقليمية إيرانية وتركية وإسرائيلية تسعى جميعها لرسم خريطة جديدة للمنطقة وتوسيع مناطق نفوذها وتأثيرها وتستند إلى رؤى وميراث تاريخى يغذيها ويسبغ عليها الشرعية ويمتلك كل منها أدواته المباشرة وغير المباشرة فى تقرير مصير الأزمة السورية وربما غيرها من الأزمات، هذا فى حين أن المشروع العربى لا يزال بعيدا وغائبا بحكم الظروف الطارئة التى هزت الاستقرار وزعزعت كيان الدولة الوطنية، المشروع العربى الذى يحظى بتوافق عربى ويتمحور حول مقاومة الإرهاب والطائفية وتعزيز الوحدة الوطنية والدولة الوطنية، ولا شك أن تطور الموقف المصرى قد يكون خطوة فى هذا الاتجاه أى صياغة مشروع توافقى عربى حول الأزمة السورية وربما غيرها من الأزمات حتى ولو كانت صغيرة، ومصر تحظى تاريخيا بالمؤهلات والقدرات التى تمكنها من بلورة نموذج مؤثر فى محيطها العربى والإقليمى خاصة مع تعزيز الاستقرار وتجاوز التحديات التى تواجهها فى هذه اللحظة.