كان هناك شابٌ قدم من الجنوب. أتى حاملاً الأمل، والأحلام، والطموح إلى بلاد باردة، بقوانين صارمة وكلمات حادة. لم يأتِ خالي الوفاض، بل حمل معه التاريخ، والإيمان، والقيم، والعائلة، وبعض الجروح والصدمات، وعزيمة لا تُقهر في أن يساهم. جاء إلى هولندا. ذلك الشاب هو أنا.
طوال ٣٥ عاماً، أحببت هذا البلد، وانتقدته، ودافعت عنه، وساهمت في بنائه. درست هنا، وعملت، وربّيت أولادي، ودفعت الضرائب، وشاركت في المجتمع المدني والنقاش العام. لم أتخلَّ عن جذوري المصرية، بل دمجت هويتي القبطية مع هويتي الهولندية الجديدة. لم أتعلم اللغة الهولندية فقط، بل تعلمت لغة السياسة والدبلوماسية والإدارة الحكومية والاندماج.
ولهذا السبب، لا يمكنني أن أصمت.
عندما قرأت المقال الأخير لأحد السياسيين الهولنديين المعروفين، شعرت بالقلق الشديد. ليس بالضرورة بسبب النوايا، التي قد تكون صادقة، بل بسبب السذاجة، والسطحية، والأسلوب التبسيطي المقلق.
دعوني أكون واضحاً: الهجرة ليست مشكلة في النظام. الهجرة هي جزء أصيل من النظام. هولندا ما كانت لتصبح على ما هي عليه اليوم لولا الهجرة. من بنى موانئ روتردام؟ من حصد الزهور في المزارع؟ من نظف المستشفيات أثناء جائحة كورونا؟ من يشغل قطاعات الرعاية، والبناء، والنقل اللوجستي اليوم؟
ومع ذلك، يتم التعامل مع المهاجر كأنه متهم… كأنه عبء، أو تهديد. لا يُنظر إليه كإنسان، بل كرقم في الإحصاءات أو كخطر محتمل.
عندما يقول السياسي إن “نظام الهجرة لم يعد يعمل”، أسأله: لماذا؟ لأنه نظام فاسد من الأساس. لأن السياسة فشلت، والمهاجر يُحمَّل المسؤولية. لا يُلام فقط على صعوبات الاندماج أو تعلم اللغة، بل أيضًا على أزمة السكن، وتدهور الرعاية الصحية، وكأن كل مشاكل البلاد سببها اللاجئون والمهاجرون والمسلمون!
الحقيقة أن الناس في هولندا غاضبون، لكن ليس بسبب وجود المهاجرين، بل بسبب استغلالهم في سوق العمل، دون استثمار حقيقي في مستقبلهم. هم ضحايا نظام لا يعترف بإنسانيتهم، ولا يُعطيهم فرصة للاندماج الحقيقي.
العمال الهولنديون يرون أن أصحاب العمل يفضلون المهاجرين لأنهم أرخص وأكثر مرونة وطاعة. هذا يولد الإحباط والكراهية لدي العامل الهولندي . لكن بدلاً من معالجة الأسباب الحقيقية، يتم توجيه الغضب نحو الحلقة الأضعف: المهاجر.
ما كتبه هذا السياسي، رغم لغته الناعمة، لا يخلو من التناقضات. يتحدث عن “نموذج جديد للهجرة”، لكنه لا يقدم رؤية تاريخية أو أخلاقية واضحة. أين الاعتراف بالدور التاريخي للمهاجرين؟ أين الشجاعة لقول الحقيقة عن الاستعمار، والروابط التاريخية والاستغلال، والتبعية الاقتصادية؟
ما تحتاجه هولندا ليس فقط “نظاماً جديداً”، بل شجاعة جديدة!
شجاعة للاستماع إلى المهاجر.
شجاعة للاعتراف بالأخطاء.
شجاعة لفهم أن الهجرة ليست كارثة، بل ضرورة إنسانيةوإقتصادية ليس فقط للمهاجرين ولكن للدول المستقبلة.
ما لم يحدث ذلك، سيبقى فهم الهجرة في المجتمع الهولندي فهماً ضحلاً، وسيبقى هذا البلد – بكل أسف – بلداً لا يريد أن يعرف!
عاطف حمدي, خبير في العلوم السياسية والإدارة الحكومية