مرت الأيام والسنين وتبدلت أحوال الأسرة .. “منى” .. تحولت حياتها بعد وفاة ابنها الوحيد، ولأنها إنسانة تعتبر إلى حد ما غير سوية في تصرفاتها، فكان من الطبيعي أن تتحول من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين.
.. عادت إلى الإسكندرية منكسرة حزينة، وأصرت على أن تنتقب وتلقى بنفسها في أحضان الأخوات، وأصبحت تقضي معظم وقتها معهم، تستمع إلى الدروس الدينية، وتحرص على أن تجاريهم في كل طقوسهم، وابتعدت عن التليفزيون وكل وسائل التسلية، وحرصت على قضاء الصلوات في أوقاتها، وزهدت في الدنيا ولكن بتطرف كبير
..عاشت “منى” مع أمها فى هدوء وسلام، ولكن كل منهما تضمر شيئًا ما في نفسها تجاه الأخرى، وكانت “أمل” دائما هي حمامة السلام بينهما، وتستمع لأختها التي دائمًا ما تتهم أمها بأنها لاتحبها وهي السبب فيما وصلت إليه، وكانت “أمل” دائما ما تهدئ من روعها وتصحح لها أفكارها ولكن دون فائدة ، إلى أن اصيبت “منى” بمرض نفسي وفقدت شهيتها للطعام، وفقدت كثيرًا من وزنها، وأصبحت لا تغادر البيت إلاّ نادرًا، ولكن الأخوة كانوا حريصين دائمًا على زيارتها، وطبعًا كانت الأم هى من تقوم على خدمتها ورعايتها، وخاصة أن المرض تملك منها كثيرًا .
.. رزق “أمجد” بثلاثة أولاد ذكور، كبروا جميعهم، وأصبحوا في مراحل التعليم المختلفة، وظل كما هو اهتمامه بنفسه أكثر بكثير من اهتمامه بالآخرين، إلى أن حدث ذات يومٍ أن مرض ابنه الكبير مرضًا شديدًا،وشك الأطباء بأنه المرض الخبيث، بكى “أمجد” كثيرًا، واتصل بأمه وأخته “أمل” يستنجد بهما ويطلب من أمه الدعاء لابنه، وبدأ يشعر أن مرض ابنه ماهو الا عقاب من الله له في أعز مايملك، فعزم على التوبة وتقرب إلى الله، وأخذ يصلي ليل نهار ويطلب الشفاء لابنه، وصامت أمه الأيام بنية طلب الشفاء للحفيد، وبالفعل استجاب الله لدعواتهم، ومرت الأزمة بسلام، وصدق “أمجد” في توبته وبالفعل تغير كثيرًا .. أصبح أكثر اهتمامًا بأمه وأسرته، وكانت “أمل” بالنسبة له هى الأخت العاقلة التي تحتل منزلة الأم بالنسبة له .. ولكن دائمًا يبقى شيئًا بداخله غير مريح لأخته “منى” نتيجة لكل تصرفاتها السابقة .. وفىّ بعهده مع الله وأدى فريضة الحج واحتوى أسرته أكثر وحرص على زيارة مصر للإطمىنان على أمه بين الحين والآخر .
أمّا “أمل” فكانت أنجحهم في حياتها ومشوارها الطويل، وكانت هي من تحمل هم العائلة بالكامل، وتشعر أنها مسؤولة عن لم شمل الأسرة، نجح ابنها في الثانوية العامة، وكان الأول على الجمهورية، وهذا بفضل مثابرتها ودعمها الدائم لأسرتها وطبعا احتفى به كل فرد في العائلة وكانت “أمل” فخورة جدًا بإبنها، شعرت أن تفوق ابنها إنما هو هدية لها من الله على تفانيها في خدمة عائلتها بالكامل .. حضرت “أمل” الحفل الذي أقامه وزير التربية والتعليم لتكريم ابنها مع أوائل الثانوية العامة و زادت سعادتها حين وصلهم خطاب مسجل بعلم الوصول، بحصول ابنها على منحة دراسية في الجامعة الأمريكية نتيجة لتفوقه العلمي .. وكان لتفوق ابنها أثر كبير فى نفس “أمل” لأنها لم تكن سعيدة في حياتها الزوجية، ولكنها رضيت بنصيبها من أجل الأبناء والأسرة، وتيقنت أن تفوق ابنها مكافأة لها من الله على تحملها وصبرها وسعيها الدائم من أجل أولادها ومن أجل أسرتها.
.. ماتت الأم ، وحزن “أمجد” عليها كثيرًا فقد كانت أقرب إنسان لقلبه ، وخاصة أنها كانت تدلله وتؤثره على أختيه،وكان يزور “منى” على فترات متباعدة، ولم يكن يبخل عليها أبدًا بالمساعدات المادية، وبرغم الجفاء الذي كانت تشعر به “منى” من أخيها تجاهها إلّا أنها كانت تحبه ودائمة السؤال عنه وعن أولاده.
.. زاد المرض على “منى”.. وبالطبع تحملت “أمل” مسؤولية رعاية أختها ، وكانت تحنو عليها فهي تحبها بالرغم من كل تصرفاتها، وكانت تتولى كل شؤونها الصحيّة وتقضي أوقاتًا كثيرة معها في بيت العائلة، وتؤكد عليها بين الحين والآخر أن تلتزم بالوعد الذى قطعوه على أنفسهم وهم صغار .. “إذا توفيت قبلها عليها أن تحضر لتخطرها بكل شىء حدث معها بعد الوفاة” .. كانت منى تقابل كلام أختها بالضحك والسخرية، وتخبرها بأنها ستأتي لتأخذها معها بسرعة لأنها لن تستطيع فراقها.. فهي الوحيدة التي كانت تحنو عليها وتقف بجانبها مهما بلغت أخطاؤها.
.. ذات يوم عادت “أمل” من عملها، وذهبت لزيارة أختها كعادتها كل يوم، لكنها فؤجئت بها في حالة يرثى لها، فقد كانت شديدة الاعياء، وأخبرتها أن أمها حضرت لها في المنام وطلبت منها أن تتحمم وتستعد للخروج معها .. بكت “أمل” كثيرا واتصلت بأولاد خالتها وخالاتها .. امتلأ البيت بالأقارب وأحس الجميع أن أجلها قد اقترب.. كانت أشدهم حزنًا “أمل”، فقد كانت تحب أختها حبًا شديدًا، وتشعر أنها ظُلمت في حياتها نتيجة تربيتها الخاطئة والعنف الزائد معها كرد فعل لأخطائها الكبيرة.
.. مضت الساعات طويلة ، لم تفارق “أمل” سرير أختها، ظلت تبكي وتقرأ القرآن وتدعو لها، علّ الله أن يبدل سيئاتها حسنات، إلى أن حانت اللحظة الحاسمة.. شعرت بأختها تريد أن تتحدث فأخذت تلقنها الشهادة وتمسح على وجهها وتبكي إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة.
.. انخرطت “أمل” في بكاء شديد، وتمت اجراءات الدفن والجنازة بسرعة، وسارت “أمل” مع أختها إلى مثواها الأخير وكانت هي وكل عائلتها، وطبعًأ لم يحضر أخوها مراسم الدفن لبعد المسافة، وتمنت ” أمل” أن يتركوها بجانب قبر أختها في أول ليلة فهي تأبى أن تتركها لوحدها .. و فجأة تذكرت الوعد الذى قطعوه على بعض ، وهيأت نفسها لاستقبال أختها لتقص عليها ماتم معها منذ ان فارقت الحياة فماذا حدث ؟
هل جاءت “منى” لأختها لتخبرها ما حدث لها في القبر وما يحدث في حياة البرزخ ؟
وماذا بعد أن مات الأب والأم وماتت منى ولم يتبق من الأسرة إلا “أمل”و”أمجد” ؟
هل ستستقيم الامور لهما وهل ستسير الحياة كما هو المتوقع ؟
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة ….. فتابعونا.