بقلم/ صلاح المختار
في يوم 27/10 /2023 شنت اسرائيل الهجوم البري الذي كانت تهدد به طوال اكثر من اسبوعين، ومهما حاولت المصادر الصهيونية انكار انه الهجوم البري فهو الهجوم البري، ولاسباب كثيرة واضحة، اولها ان الهيجان الاسرائيلي والذي وصل الى حد جنون الانتقام كان وراء الاعلان عن الهجوم وعولت القيادة الاسرائيلية عليه كثيرا في تحقيق الانتقام الدموي المتمثل في الابادة الكاملة للشعب الفلسطيني ، فهو نتاج نوبة جنون وخارج السياقات العقلانية في الحرب ،والنوبة تتراجع تدريجيا مهما كانت قوية.
حكمة عربية
ان الله عندما يغضب على النملة ينبت لها اجنحة فتطير ،وعندها تأكلها العصافير!
الى ذلك فان الطبيعة الدموية والوحشية المتطرفة للرد الاسرائيلي اثارت العالم بغالبيته الساحقة، بما فيها اعداد كبيرة من يهود العالم خصوصا في نيويورك حيث تظاهر لاول مرة عددا ضخما منهم من اجل ايقاف الحرب ضد فلسطين،ووصل الضغط العالمي الشعبي الى حد ان دول غرب اوروبا وامريكا اخذت تمارس الضغط على اسرائيل للتخفيف من حدة الهجوم والسماح بدخول المساعدات.
هذه المعطيات كافية لتاكيد ان الذي نفذ يوم 27 كان الهجوم البري بذاته، ولعدم الثقة من نجاحه اعلن انه عمليات محدودة لتجنب زيادة الانهيارات المعنوية والعقلية الخطيرة. والذي حصل ميدانيا للهجوم سجل فضيحة اخرى لاسرائيل قد تكون اخطر من فضيحة بدأ عمليه طوفان الاقصى،والسبب واضح :فلئن كانت عملية طوفان الاقصى في بدايتها مفاجاة وهذه الحقيقة تقلل من قوة مشاعر الخيبة والفشل الاسرائيلي ،رغم جسامتها، فان التنبه الاسرائيلي بعدها والاستعداد العسكري والشعبي والنفسي والدعم الامريكي والاوروبي الشامل والمطلق وغير المحدود، واستدعاء الاحتياط ومرور اكثر من اسبوعين واسرائيل تعبأ قواها وتعد نفسها للهجوم البري، كل ذلك يؤكد امرا واحدا ان اسرائيل حشدت اقصى ما يمكنها استخدامه عمليا من جيشها بكافة صنوفه وقدراتها التكنولوجية واللوجستية ،فأذا فشل الهجوم فان ذلك له معنى واحد لاغير : اسرائيل فقدت القدرة على القتال بصورة نهائية، وهذه النتيجة وضعتها الان وليس غدا فوق صفيح ساخن بدأ بشوائها ببطء.
وهذه حقيقه عرفتها امريكا والاتحاد الاوربي قبل الهجوم البري فطوفان الاقصى ومنذ الساعات الاولى لها اكدت بان اسرائيل منهارة تماما عسكريا ونفسيا ومتفككة شعبيا بصورة لم يسبق لها مثيل، واذا لم يتحرك الغرب فورا لايقاف انهيارها الشامل الظاهر للعيان فانها ستدخل نفق النهاية الحاسمة والمفضي الى مخرج واحد لاغير وهو الفرار الجماعي للمستوطنين الصهاينة الى الخارج، وتلك دون ادنى شك هي النهاية الحاسمة لاسرائيل، ولهذا فزيارات قادة الغرب لها فورا، خصوصا الرئيس الامريكي والمستشار الالماني والرئيس الفرنسي، وبالتعاقب والحرب تدور وتل ابيب تقصف هدفها نفسي وهو رفع المعنويات اولا، ورسالة تهديد للعرب وغيرهم ثانيا. وملاحظاتنا هذه يؤكدها واقع ما جرى، وهي من بين اهم الحسابات العسكرية والطبية النفسية ايضا ، والافلام اظهرت ان المستوطنين الغرباء اظهروا فزعا عارما وشهد مطار بن غوريون تدافعا فوضويا غير مسبوق لكثرة المغادرين الى الخارج .
هل هذه النتيجة كارثية ؟ نعم هي كذلك لان اسرائيل كانت تعد نفسها لهجوم كان يجب ان ينهي حماس ويقذف بسكان غزة الى سيناء، فالوعي والاستعداد كانا حاضرين ولم تكن هناك مباغتة، وحجم القصف الاسرائيلي التمهيدي بالطائرات والدبابات والصواريخ فاق كل تصور يوم 27-10 ومن النادر ان تجد هجوما على مدينة بهذه الكثافة النارية، وهو يماثل هجوم امريكا على مدينة الفلوجة في عام 2004 ،ومع ذلك فان النتيجة كانت الفشل، ورأينا جثث الجنود الاسرائيليين مكومة صباح اليوم التالي للهجوم، وهذه كارثة اشد هولا وتأثيرا نفسيا ضربت اسرائيل وجيشها وحكومتها واحزابها ومؤسساتها المخابراتية في القلب، ضربة لم يسبق لها مثيل. ومن الطبيعي فان فشل الهجوم البري ادى الى مضاعفة مشاعر اليأس والرعب في نفوس الاسرائيليين، فلم يمض سوى اسبوعين على الصدمة الاكبر في تاريخ اسرائيل حتى جاءت صدمة ثانية اكبر منها وهي صدمة انهيار اخر امل لهم بتغيير معادلات القوة لصالحهم.
لقد تاكد الإسرائيليون بأن جيشهم عاجز بنيويا وهو سبب هزيمته وليس نتيجة تقصير عسكري او امني او سياسي فهذه هي حدود القوة الاسرائيلية ، وهذا هو السبب الذي اجبر اسرائيل على الاعلان عن استبدال الهجوم البري الشامل على كل غزة بمحاولة السيطرة على اجزاء منها فقط! كما اجبر نتنياهو اليوم على الاعتذار وسحب تغريدته التي اتهم فيها قادة المخابرات بالتقصير لان الحقيقة التي لم تعد خافية هي ان تكوين اسرائيل بذاته هش معنويا وهو السبب. ومن مفارقات التاريخ الموحية للمستوطنين ولداعميهم الغربيين، مفارقة ان الوضع التقليدي طوال عقود الصراع العربي الصهيوني انقلب رأسا على عقب فقد تباهت اسرائيل، وتباهى الغرب بقوتها الفريدة ، طوال عقود مضت بالقول ان اربعة ملايين اسرائيلي هزموا 120 مليون عربي لديهم 20 جيشا ( هذه ارقام الفترة الماضية ) ، الان نرى منظمة صغيرة وليس دولة لاتملك الا الحد الادنى من السلاح البسيط نسبيا مقارنة بالقدرات المتفوقة للجيش الاسرائيلي، لكنها تؤمن بالله وبحق الشعب الفلسطيني بأرضه ووطنه ،وهي كتائب القسام تهزم الجيش الذي لايقهر وتذله كما لم يحصل من قبل ، فصارت السخرية ليس من العرب بل من الاسرائيليين الذين هزموا خلال ساعة او ساعتين .
وانقلاب الاية بطغيان (هزيمة اسرائيل بساعتين ) ليس طارئا ولا سياسيا بل هو انقلاب بنيوي اي انه منبعث من التكوين النفسي والعقلي للغرباء الذي استعمروا فلسطين، فهو لهذا السبب الجوهري غير قابل للتغيير ابدا ،الامر الذي أوصل إلى بلورة قناعة لدى الاغلبيه الساحقه من الاسرائيليين وهي ان مستقبل اسرائيل مظلم ولا أمل لها في البقاء، وما يعزز العامل البنيوي للهزيمة الاسرائيلية هو ان نتائجها المستقبلية اخطر من حصيلتها الحالية ، فبعد كل هذا الاعداد لمدة تزيد على ال 70 عاما من بناء المستعمرة الاسرائيلية ،وبعد مبالغ اسطورية الكم ا صرفت عليها وعلى جيشها لتوفير القوة المطلوبة للتفوق على كل العرب مجتمعين ، وبعد تثبيت اركانها بأحدث الوسائل واشدها فاعلية ،وبعد كل تلك الحروب والتي ادت الى الاضعاف الجذري للعرب وتجريدهم من عوامل الانتصار،بعد كل هذا فان فصيلا مقاوما من العرب الحق الهزيمه الاخطر في تاريخ اسرائيل بالدوله كلها وليس بالجيش فقط !
طوفان الاقصى زرعت قناعة في نفوس المستوطنين الغرباء بان اسرائيل زائلة لا محالة فمن اين ستاتي بقوة ومال اكثر مما امتلكته وصرفته طوال 70 عاما؟ قليل من الدول ستغامر وتكرر تقديم هذا الدعم وان قدمته سيكون بشروط مختلفة وبتردد ليس فقط لانه استنزاف مادي للداعمين بل لانه ايضا عبثي في ضوء نتائج طوفان الاقصى، ناهيك عن اختلال موازين القوى لصالح العرب وهو ما يحسب حسابه العالم كله ،فالذي فشل بعد كل ذلك الاعداد فمن سيغامر ويقدم الدعم؟ ولماذا يقدمه اذا كانت نتيجة طوفان الاقصى حتى الان هي هزيمة وظهور بوادر تفكك اسرائيل؟ والذي يراه الان كل مجرب وخبير هو ان نهاية اسرائيل تقررت واصبحت حتمية .
ومن مظاهر الانهيار البنيوي الشامل ما نراه من انتحار كثيرة من الجنود وغيرهم وهي ظاهرة تكتمت عليها الجهات الرسمية، ولا احد يعرف العدد الحقيقي ولكن الهستيريا التي اصابت الجنود والضباط والتي تم مشاهدة بعضها في الانترنت مؤشر لضخامة الانهيار النفسي والعقلي ، وعندما تطفو مثل هذه الظواهر المتزامنة يتيقن اي مراقب ان مصير اسرائيل تقرر ولا يمكن تغييره، هذه النتيجة لم تحصل لان العرب اقوى من اسرائيل عسكريا وماديا بل لان اساس قيامها غير شرعي وفاسد ومخرم ولذلك انهار من اول زلزال كبير في طوفان الاقصى.
والعامل الاخر المستجد والذي سيعجل بانهيار اسرائيل وتفككها هو ان العرب قد تحرروا من وهم ساد عقودا وتبنته انظمة عربية،ويقول بان (اسرائيل قويه ولا تقهر) و(ان دعم امريكا لها يجعل ازالتها او القضاء عليها مستحيلا ) ، بل وذهب حكام عرب الى تبني نظرية مضللة اخرى وهي (ان كسب ود امريكا يبدأ بكسب ود اسرائيل) ! وتلك من ثوابت الاستسلام الرسمي العربي التي حطمتها كتائب القسام فاعادت للمقاومة الفلسطينية هيبتها وطليعيتها بعد ان لوثتها اتفاقية اوسلو .وساعد على اكمال عناصر انهيار الاوهام رؤية كيف عجزت امريكا والاتحاد الاوربي عن اعادة الحيوية لاسرائيل بدليل نتائج الهجوم البري الكارثية عليها، رغم الاشراف والدعم العسكري الامريكي للهجوم!
طوفان الاقصى ليس زلزالا فقط بل هو تسونامي غير مسبوق ضرب الكيان الصهيوني وحرث الارض حرثا تاما تحت اقدامه واصبح الكابوس المرعب مسيطرا على المستوطنين الذين رايناهم قبل اسابيع يهتفون الموت للعرب ويشتمونهم وهم يحتلون المسجد الاقصى بقيادة وزير الداخلية ! والعرب الذين عرفوا كل هذه الحقائق لن يتسامحوا مع انظمتهم على استسلامها التام، والطوعي غالبا، للمستعمرين الصهاينة والذي كان سبب هزائم العرب وليس قوة افتراضية لاسرائيل.
ان ما حصل تحول تاريخي جذري وعالمي في مجرى الصراع وليس اقليمي فقط فلن ينسى احد في العالم كيف سقطت كل الشعارات التي رفعها الغرب حول الديمقراطيه وحقوق الانسان واحترام القانون الدولي والقانون الدولي الانساني، فقد داست نخب الغرب كل ذلك علنا ورسميا بعد عمليه طوفان الاقصى،فكمموا الافواه وهددوا العرب في اوربا بالطرد اذا أيدوا مقاومة غزة ، ودافعوا عن الحق الفلسطيني، كيف سيبررون ذلك امام شعوبهم التي اخذت تنهض ضد مواقفهم ؟ هل ستنقلب الاية وتبدأ دول الغرب بالشعور بالذنب نتيجة مساهمتها او قيامها مباشره بأبادة ملايين العرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الان؟ غزو فلسطين واقامة فرض اسرائيل بالقوة الغاشمة على فلسطين كانت البذره التي انبتت شجرة الحروب بكل اغصانها التي سممت حياة العرب وكل العالم .
ولكي نكمل صورة مفارقات الحرب فان تأكيد ان طوفان الاقصى كانت اكبر من حسابات كتائب القسام واكبر من تخيلهم ومن تخيل اي انسان، دون استثناء، فللحرب قوانينها الذاتية التي تخرج عن سيطرة من يطلقونها، وهذه هي من المرات النادرة في التاريخ التي تختلف فيها نتائج الفعل جذريا عن الحسابات الموضوعه له مسبقا، وهذا ليس بغريب فهناك قانون مطلق وهو ان التراكمات الكميه المسيطر عليها تتحول الى كتلة نوعية تخرج عن اي نطاق سيطرة ،فالتراكمات الناشئه عن غزوات اوروبا وامريكا وجرائمهما في الوطن العربي وجرائم اسرائيل وهي ابشع من جرائم امريكا وبريطانيا وفرنسا،فاصبح للعرب تاريخ مدون في حدقات الاطفال والنساء والشيوخ الذين عانوا من عذابات قاسية قبل قتلهم او اعدامهم ، وجرائم امريكا في العراق والتي اعتبرت قمه الوحشيه والهمجيه لم تعد كوابيس للعراقيين فقط بل هي اصبحت كوابيسا للامريكيين الذين شاركوا في الحرب وزرعت فيهم الامراض النفسية والجسدية.
وجرائم اسرائيل خصوصا في هجومها البري فاقت كل جرائم الحروب السابقة ولذلك فان كل الطرق امامها اصبحت مغلقه ومهما فعلت لفتح هذه الابواب بالقوة فان ما بعد الابواب ابواب، وما بعد سلسلة الابواب الموصدة باحكام اراض ملغومة، ولا تقتصر النتائج الكارثية لمقاتل طوفان الاقصى على اسرائيل بل هي تشمل غرب اوروبا وامريكا ايضا، فالانقلاب الجذري والرسمي على الديمقراطية وحقوق الإنسان فيهما سيؤدي إلى تغييرات كبيرة وقد تكون جذرية في بعض الحالات،في أغلب البلدان الأوروبية، وعلى الأرجح في امريكا ايضا، لان جماهير الغرب تأكدت عبر التجارب بأن كل ما تثقفت وتربت عليه طوال قرنين أو أكثر حول حقوق الانسان والديمقراطية وحكم الشعب واحترام إرادته كانت أكاذيب ، والان انكشفت هذه الأمور وسيواجه الغرب العالم وهو فاقد للمبادرة التاريخية ولن يستطيع اعادة امساكها مهما فعل لأن الأسس الموضوعية لتفوقه انهارت كلها .
اما نحن العرب فقد انفتحت امامنا ابواب النهوض والامل واستعادة المبادرة وتجميع القوى، وسيبدأ عصر جديد في المنطقة ينهض فيه العرب ، المستقبل لنا .يتبع.
[email protected] 29-10-2023