في مثل هذا اليوم 8 شباط- فبراير من عام 1963 شهد العراق حدثا جبارا لم يسبق له مثيل في تاريخه الحديث وربما في تاريخ بقية الشعوب، ليس فقط بسبب طبيعة من شاركوا فيه بل ايضا في توقيته الفريد، فلقد تدفق الالاف من رفاق البعث من الحارات والبيوت والشوارع في بغداد وفرضوا السيطرة على مراكز الشرطه والجسور والساحات، وهم يحملون اسلحة خفيفة بعضها صدئة وبعضها الاخر لا يعمل ولكنهم نزلوا الى ساحات العز مسلحين بقوة الايمان بالله وبانتصارهم على الديكاتورية القاسمية .لقد انتفض شعب العراق وكان من تدفقوا الى الشوارع مدنيين، وتلك هي الميزه الاولى لثوره 14 رمضان الموافق الثامن من شباط في عام 1963، والميزة الفريدة الاخرى في ذلك التغيير التاريخي هي توقيت الثورة حيث انها انطلقت في الساعه التاسعة صباحا بدل الفجر كما كانت الانقلابات العسكرية تحدث، وكانت كلا الميزتين دلالة على عبقرية قيادة الحزب رغم ان اعضاءها كانوا كلهم شبابا ! في ذلك اليوم المجيد ارتفعت اصوات العراقيين من المساجد ومن مكبرات الصوت ومن الاذاعة تدعو الى الثورة واسقاط النظام الدكتاتوري بعد ان نفذت في ساعه الصفر وهي عملية قصف وزارة الدفاع التي كان يقيم فيها الدكتاتور والتي بدأ بها الرفيق المقدم منذر الونداوي رحمه الله. كان لي الشرف ان اكون من بين هؤلاء الثوار ، فقد اجتمعنا في بيت المسؤول الحزبي عن منطقة سوق حمادة في الكرخ الرفيق ابو رفعت رحمه الله منذ الساعة الخامسة فجرا وكنا اكثر من ثلاثين رفيقا نجلس في غرفة ضيقة،وكان الرفيق ابو رفعت يدخل علينا ويخرج الى باحة الدار وهو يتكلم ولكننا لم نكن نفهم ما يقول مع عائلته! وكل ما عرفناه انه يسال هل الراديو فيه بطاريات، وكان حينما يدخل الغرفة يقول :استمروا في مناقشة كيفية استمرار الاضراب الطلابي وتقويته، ثم يخرج ونعود الى النقاش وكل منا يطرح طريقه تطوير الاضراب وادامته واحباط محاولات قوى الامن افشاله، وفي الساعه التاسعه صباحا سمعنا صوت اطلاق الرصاص الثقيل فصمتنا كي نسمع جيدا ، وقبل ان نقول اي كلمه سمعنا الراديو يبدأ ببث البيان رقم واحد لثوره 14 رمضان المجيدة معلنا اسقاط الدكتاتورية داعيا ابناء الشعب لدعم الثوار لانجاح الثورة.
خرجنا في تظاهرة كانت مقتصرة علينا ولكن كلما سرنا بضعة خطوات كانت الجماهير تنضم الينا وتهتف بحياة الثورة وسقوط الدكتاتور، الى ان وصلنا الى ساحة الشهداء حيث تجمعنا هناك، وابلغنا بواجبنا وهو ان نمسك راس جسر الشهداء من جهة الكرخ ونمنع العبور منه الى وزارة الدفاع القريبة من الجهة الاخرى من النهر من قبل العسكريين والمدنيين الا اذا اعطينا سر الثورة، وكان عبارة (رمضان مبارك)، وابلغنا بان الدبابات في طريقها الينا ذاهبة الى وزارة الدفاع للقضاء على النظام الدكتاتوري، وسلمت وقتها رشاشة قديمة ليس فيها مخزن عتاد اي انها مجرد حديدة ! فقلت لمسؤولي: ما هذا رفيقي اين العتاد؟. قال لي احملها هكذا ليس لدينا العتاد الان،وقفنا انا وزمرة من رفاقي عند مطلع الجسر لمنع العبور منه الى وزارة الدفاع الا لمن يعطي كلمه السر، وكانت الدبابات تتوالى واحدة بعد الاخرى،ورفاقنا الضباط يعتلون ابراجها، وما ان يصلوا الينا حتى نسألهم عن كلمة السر فيردون علينا (رمضان مبارك)، وكان صهيل سرفات الدبابات يختلط بزغردات النساء المتعالية من بين المتظاهرين ومن فوق السطوح المنازل لان الناس صعدت اليها لتشاهد طائرات الثورة وهي تدك مقر الديكتاتور !وكان بعض الرفاق يطلق رصاصات من مسدسات شخصية فرحا بالثورة.
وبينما كنت واقفا امام الجسر جاءت سيارة صغيرة وقفت امامي وصدر منها صوت يقول لي: صلاح اصعد معنا، نظرت الى السيارة فوجدت مسؤولي السابق الذي نظمني في الحزب الرفيق خالد ناصر والرفيق عبود الكرخي والرفيق عبد القادر النعيمي معه في السيارة ، قلت له الى اين؟ قال لي منطقة الفضل نحن في واجب نضالي، فقلت له :مسؤولي الحالي كلفني انا ورفاقي الحاضرين هنا بحماية الجسر ولا استطيع تركه الا اذا اقنعته انت بذلك، فقال طيب سنراك لاحقا، عبروا الجسر ذاهبين الى منطقة الفضل وكانت هناك مقاومة من بعض انصار الحزب الشيوعي الذين حملوا السلاح لمقاومة الثورة ولم يخطر ببالي على الاطلاق ان تلك اخر مرة ارى فيها من نظمني في الحزب الشهيد خالد ناصر فقد استشهد ثلاثتهم برصاص الشيوعيين.وجاءت احدى الدبابات في نفس الوقت الذي بدأت فيه الرشاشات الثقيلة من وزارة الدفاع تطلق النار على الثوار باتجاه منطقة الست نفيسة المكشوفة لوزارة الدفاع من جهة الكرخ، وكان من بين الدبابات دبابة يعتليها ضابط صديقي اعرفه وابن منطقتي وهو الفريق الركن عدنان خير الله رحمه الله– كان وقتها ملازم- ويسكن مع والده الحاج خير الله طلفاح رحمه الله في منطقة خضر الياس الملاصقة لمنطقة الست نفيسة وهي محاذية لنهر دجلة ومقابل وزارة الدفاع وقلنا له : ان هناك اطلاق نار من وزارة الدفاع على جانب الكرخ دخلت الدبابة بدل الذهاب الى وزارة الدفاع في شارع موسى الكاظم باتجاه محلة الست نفيسة المجاورة لمكان تجمعنا، وهناك بدات هذه الدبابة تطلق النار على المدافع الثقيلة في وزارة الدفاع فاسكتتها.
وبعد قليل رايت المرحوم الرفيق احمد طه العزوز الذي شارك في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم ومعه المرحوم الرفيق محمد محجوب، عضو قيادة قطر العراق فيما بعد ، وقال لي الرفيق العزوز: صلاح اقفز من فوق سور المسجد وافتح لنا بابه لاننا نريد ان نستخدم مأذنته لبث بيانات الثوره لتصل الى الجماهير المحتشدة هنا والمناطق المحيطة بها، وبالفعل حملاني كي اعبر السياج العالي وفتحت الباب ودخلنا نحن الثلاثة الى المسجد ووضعنا الراديو الترانزستور على سماعته لنقل بيانات الثورة واناشيدها وذلك زاد حماس الجماهير واعدادها الغفيرة التي لم يعد هناك مجال فارغ في الساحة ومحيطها من الازقة والشوارع، ثم عدت لمكاني على رأس الجسر.كانت الطائرات توالى قصفها لوزارة الدفاع ،وكان دوي القصف يختلط بزغاريد النساء وببضعة اطلاقات ترتفع من الشوارع ومن اسطح البيوت.وبعد ان اكتمل عبور الدبابات واحكمت الطوق القاتل على وزارة الدفاع اعيد تنظيم صفوفنا وطلبنا من الجماهير اعداد الطعام والماء لنا بعد ان كلفنا بالاستقرار في مراكز الشرطة والسيطرة على كل المناطق والاستعداد لتقديم العون لرفاقنا في مناطق اخرى قد تحتاج الينا. وكنا نحن قد تمركزنا في مركز شرطة سوق الجديد وبقينا هكذا الى اليوم الثاني.
ولم نكن قد ذقنا دقيقة واحدة من النوم، وكنت اشعر بنعاس شديد ولكنني غالبته وتغلبت عليه ثم صرعني فغفوت لهنيهة فوق سرير شرطي في المركز. وبسبب عددنا الكبير لم يكفينا مركز شرطة واحد فتوزعنا خارجه وبسبب تعبنا الشديد جلسنا على حافات ارصفة الشارع نحمي المنطقه، الى ان بث تلفزيون بغداد لقطات من محاكمة الدكتاتور قاسم بعد القاء القبض عليه هو وزمرته وتنفيذ حكم الاعدام بهم. فشهدت بغداد اطلاق نار كثيف فرحا بانتصار الثورة.انه يوم خالد ساهم فيه الشعب في اول انقلاب عسكري مشترك نظمته جهة مدنية هي القياده القطريه لحزب البعث العربي الاشتراكي ونفذه عسكريون ومدنيون وتلك كانت الميزة الفريدة التي اشرنا اليها ومنها تعلمنا فنون القتال والمواجهة العسكرية في الشوارع.في هذا اليوم الخالد الذي استعاد فيه شعب العراق دوره وحريته لا يسعنا الا ان نستخلص الدرس الاعظم من ثورة رمضان وطريقة تنفيذها وهي ان الانسان اذا عقد العزم وكانت ارادته صلبة ولديه عقل يخطط يستطيع صنع المستحيل وهو ما صنعه حزبنا العظيم بعد سنوات من اليأس والظلم الذي تحمله شعب العراق من دكتاتورية عبد الكريم قاسم.
نهض فتية بعثيون وقادوا الشعب نحو انتصار لم يخطر ببالهم قبل يوم الثورة، وهكذا هي الارادة البشرية تصنع المستحيل ولا راد لها الا الله، لذلك فاننا ونحن نواجه الاحتلال الايراني والامريكي للعراق عقدنا العزم منذ دخلت اول دبابة جنوب العراق وقبل ان تصل لبغداد على تحرير العراق من الاحتلال واعادة حرية الشعب وصون كرامته وانهاء كوارثه وتوفير كافة الخدمات له، مثلما عقدنا العزم على توفير الشرط الحاسم لتحقيق ذلك الانتصار على الاحتلال وهو ان يبقى حزب البعث العربي الاشتراكي واحدا قويا محافظا على هويته القومية الاشتراكية وعلى ستراتيجيته الاصلية رافضين اي انحراف ومقاومين لاي انحناء لاسرائيل الشرقية وللنظام السوري، ففي قوة الحزب ووحدته الشرط المسبق لتمكننا من صنع المستحيل الذي صنعناه في ثوره رمضان في عام 1963، ولن تستطيع اي قوة اختطاف الحزب وتسخيره لخدمة الاحتلال ولو بطرق مموهه.
اننا نحن الذين شاركنا في ثورة رمضان وبقية مفاخر الحزب ومن اهمها التصدي للاحتلال منذ بدأ، وتحملنا ضروب التعذيب البشع والذي ترك في اجسامنا ندوبا لايمحيها الا الموت، نؤكد اصرارنا على التمسك بنقاء الحزب وسلامته واستعدادنا التام لمواصلة القتال وبلا هواده من اجل دحر مخطط السطو عليه من قبل الطارئين عليه، ولن يكون لنا من شعار الا شعار واحد وهو نفس الشعار الذي رفعناه منذ غزو العراق : النصر او النصر ولا شيء غير النصر، لا تراجع بل تقدم الى امام من اجل انقاذ الحزب واعادة بناءه،لانه،ونكرر القول،الامل الاكبر في تحرير العراق وانقاذ الامة العربية.
الخلود لشهداء ثوره رمضان.تحية اعتزاز الى كل من خطط لها ونفذ دوره فيها الاحياء منهم والاموات خصوصا الرفاق علي صالح السعدي امين سر قيادة قطر العراق وقتها وحازم جواد عضو القيادة القطرية واحمد حسن البكر الاب الروحي للعسكريين البعثيين واصدقائهم.