«أكراد سوريا استندوا خلال السنوات الخمس الماضية إلى إستراتيجية تقوم على إيجاد أمر واقع بالاعتماد على الدعم العسكري الغربي، والتمدد على الأرض، وتوسيع المساحات الخاضعة لسيطرتهم، وإقامة مناطق إدارة ذاتية لا تخضع لدمشق. لكن هذه المعادلة انتهت الآن.
منذ انتصار الأكراد في معركة منبج لأن السلاح الكردي الموجود في سوريا بدلا من أن يكون عنصر قوة، بات عنصر ضعف. فهذا السلاح عزز قلق تركيا وإيران وسوريا التاريخي من أي حكم ذاتي كردي، ووحدهم أمام أكراد سوريا».
كهذا يلخص مسئول غربي بارز مطلع على تطورات الملف السوري لـ»الأهرام» تعقيدات الخيارات في الملف السوري أمام الغرب اليوم.
فامريكا وبريطانيا حريصتان على مشاركة قوات سوريا الديمقراطية، التى تتكون فى غالبيتها من مقاتلين أكراد، فى معركة استعادة الرقة من تنظيم «داعش».
ومسئولون بريطانيون موجودون فى سوريا حاليا يبحثون خطط الهجوم المرتقب، فيما زار السيناتور الامريكى جون ماكين سرا شمال سوريا نهاية فبراير الماضى لبحث معركة استعادة الرقة من ناحية والتنسيق مع القوات الكردية الموجودة على الأرض من ناحية اخري.
لكن هذه التحركات أغضبت تركيا، كما حركت مخاوف قديمة لدى إيران وسوريا من تقوية أكراد سوريا على الأرض لدرجة تسمح لهم بتأسيس حكم ذاتى مستقل يفتح شهية أكراد تركيا وإيران على مكاسب مماثلة. وفيما قالت أنقرة علانية إنها لن تشارك فى معركة تحرير الرقة لو شاركت فيها قوات سوريا الديمقراطية، فإن طهران ودمشق كانتا أقل وضوحا وإن لم تكونا أقل قلقا.
وأمام غموض الصورة ومن سيشارك فى معركة الرقة ومن لن يشارك وما هو الثمن، تتأخر معركة استرداد الرقة من داعش. فالمعركة ليست عسكرية محضة وسيترتب عليها نتائج سياسية وقطف ثمار والجميع يريد أن يكون له نصيب من الكعكة، أكراد سوريا، والأتراك، والإيرانيون، والحكومة السورية، والقوى الاقليمية، والغرب.
لكن وفيما يمكن لكل طرف تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية من معركة تحرير الرقة، فإن الأكراد وحدهم يمكن أن يحققوا مكاسب أو يتكبدوا خسائر جسيمة وذلك بحسب «ترتيبات ما بعد الرقة» إقليميا ودوليا فى سوريا.
فقوات سوريا الديمقراطية التى تأسست فى عام 2015 من الأكراد ومعهم قبائل عربية وأقليات مثل اليزيديين والمسيحيين بعدما فشل الغرب فى تكوين قوات عربية سنية لقتال الجماعات المتطرفة، هذه القوات الكردية تمكنت من طرد تنظيم داعش من كوبانى فى فبراير 2015، ثم من تل أبيض فى يونيو، ثم من الحسكة فى يوليو، ثم الهول على الحدود العراقية، ومنبج فى شمال سوريا 2016. بإختصار بعد نحو 6 سنوات من المحاولات الغربية الفاشلة فى سوريا، تعد قوات سوريا الديمقراطية هى قصة نجاحه الوحيدة.
لكن هذا النجاح أثار حفظية الأتراك ومعهم ضمنا الإيرانيون والحكومة السورية. فالانتصارات الكردية الكبيرة خلال 2015 و2016 أدت إلى سيطرتهم على مناطق شاسعة شرق وشمال سوريا على الحدود التركية.
كان من المفترض أن يعقب سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على منبج، سيطرتهم على مدن جرابلس والباب وحتى حربل شمال حلب وذلك لقطع آخر طرق الإمدادات بين داعش وتركيا، لكن هذا كان يعنى ضمنا فتح الطريق أمام سيطرة الأكراد على شمال سوريا من القامشلى شرقا إلى عفرين غربا.
وأمام هذا السيناريو وفور سيطرة الأكراد على منبج، تحركت تركيا للسيطرة على جرابلس ثم على الباب لمنع أكراد سوريا من السيطرة عليهما. وخلال الأيام القليلة الماضية، وجهت أنقرة تحذيرات لقوات سوريا الديمقراطية بمغادرة مدينة منبج وإلا تعرضوا لقصف الجيش التركي.
التحذيرات التركية وضعت الغرب فى موقف صعب. فعلى لندن وواشنطن إرضاء أطراف ومصالح وأولويات متناقضة فى سوريا.
فمحاولات تركيا وفصائل المعارضة الموالية لها، لنزع ورقة محاربة داعش من الأكراد، تضعف الحرب على داعش، وتجعل الغرب فى موقف صعب للاختيار بين تركيا والقوات المتحالفة معها من ناحية، وأكراد سوريا والقوات المتحالفة معهم من ناحية ثانية. وهو خيار صعب لم تحسمه العواصم الغربية بعد.
ومع الدخول التركى على خطوط محاربة داعش فى شمال سوريا والعراق «يدرك أكراد سوريا أن آخر ورقة فى يدهم هى ورقة تحرير الرقة. لكن المعادلة هشة جدا وليس لها ضمانات»، كما يقول المسئول الغربى لـ»الأهرام».
موضحا:»أكراد سوريا يتخوفون من أنه بعد تحرير الرقة، فإن مهمتهم فى نظر الغرب ستكون بعبارة أخرى يخشى الأكراد أن الإلتزام الغربى بهم، من حيث الدعم السياسى والعسكرى سينتهى خلال أشهر وليس سنوات، ما يجعل مجمل المكاسب الكردية فى سوريا فى الأعوام القليلة الماضية فى مهب الريح.
والسؤال الوجودى بالنسبة للأكراد اليوم: ماذا بعد الرقة؟.
الرقة بالنسبة للأكراد ورقة تفاوضية مع الغرب وليست هدفا عسكريا بحد ذاته. الرقة غير هامة استراتيجيا للأكراد وبعيدة عن مناطقهم فى شرق وشمال سوريا.
كما أن الحاضنة الأجتماعية للأكراد تعارض معركة الرقة. فغالبية أكراد سوريا لا ترى المنفعة الأستراتيجية فى معركة الرقة، فهى مستنقع عسكرى محتمل وقد تكبدهم مئات أو آلاف القتلي.
وفيما كان هدف أكراد سوريا من المشاركة فى المعركة هو التوصل لمقايضة مع الغرب بين دورهم فى تحرير الرقة، مقابل السماح بتوسع الأكراد فى اتجاه عفرين. باتت تلك المقايضة فى حكم المستحيل اليوم، بعدما استبقت تركيا التحولات على الأرض، وقامت بالسيطرة على مدن جرابلس ودابق والباب وذلك لقطع الطريق أمام الأكراد لتكوين امتداد أرضى يسيطرون عليه من الحسكة شرقا حتى عفرين غربا بطول الشمال السوري. خيارات أكراد سوريا الصعبة لا تخصهم وحدهم، فامريكا وبريطانيا وقوى أخرى استثمرت ماليا ولوجستيا وسياسيا ومخابراتيا فى قوات سوريا الديمقراطية وتريدهم ان يكونوا شركاء على الأرض فى المعارك، وشركاء فى التسوية السلمية لاحقا.
ويقول المسؤول الغربى لـ»الأهرام» فى هذا الصدد: «إصرار أكراد سوريا على مشروع التوسع من الحسكة إلى عفرين يعرقل ما يطالبون به الغرب وهو اعطاؤهم حماية وغطاءً دوليا لمشروعهم السياسي. كما يعرض أكراد سوريا إلى خطر تنسيق أمنى اقليمى عابر للحدود ضدهم من إيران وتركيا والنظام السوري. ومعارك الحسكة نهاية العام الماضى أظهرت أن النظام السورى جاهز للمواجهة مع أكراد سوريا إذا تجاوز الخطوط الحمراء. فلأول مرة تقوم القوات النظامية السورية بقصف مواقع تابعة للأكراد فى الحسكة شرق البلاد. ففكرة كيان كردى متواصل جغرافيا من الحسكة شرقا إلى عفرين غربا لا تقلق أنقرة وطهران فقط، بل ودمشق أيضا».
الحرب السورية كما بات واضحا للعيان ليس فيها أعداء دائمون أو أصدقاء دائمون. وسيولة التحالفات فى ذلك النزاع أوضح ما تكون فيما يتعلق بملف أكراد سوريا.
وبينما يرى البعض أن أكراد سوريا «أداة فى حرب بالوكالة» عن الغرب الذى لا يريد أرسال قواته على الأرض، يرى الأكراد أنها «حرب بالأصالة» عنهم وعن أراضيهم ومطالبهم القومية وأن المكسب الذى يجب أن يحصلوا عليه يجب أن يعادل الثمن الذى دفعوه لتحرير تلك الأراضي. لكن التعقيدات المتزايدة فى المشهد السورى ربما تقنع أكراد سوريا بانتهاج إستراتيجية أكثر واقعية.
فهناك تيار وسط أكراد سوريا يريد الأستمرار فى سياسة «فرض الامر الواقع» والتمدد جغرافيا والاعتماد على التحالف مع الغرب بوصفه الراعى الأساسى لهم. لكن فى المقابل هناك تيار آخر وسط الأكراد السوريين أكثر برجماتية يريد «خلق دبلوماسية أقليمية حساسة» إزاء مطالب أكراد سوريا، تنظر إليها بعين العطف وليس الخوف.
هذا التيار يريد إعادة فتح باب الحوار مع دول الجوار وطمأنتها. لكن فتح ذلك الباب يستلزم تغييرا فى النهج السياسى والعسكرى يقوم على التنصل من المشروع القائم على التوسع فى الأراضى لإقامة حكم ذاتي، والعودة بدلا من ذلك إلى المطالب الأساسية للأكراد، وهى حقوق قومية ونظام سياسى علمانى مدنى ديمقراطى يعطى للاكراد حق الإدارة الذاتية فى اطار الدولة السورية وليس ككيان انفصالى مستقل.
ويوضح المسئول الغربي: «الوسيلة الوحيدة لضمان عدم خسارة الأكراد لكل شئ هو العمل فى اطار دولة مركزية سورية فيدرالية. فتركيا لن تسمح بكيان كردى مستقل على حدودها. أما إيران وروسيا فيرحبان بمنح الأكراد حقوقهم القومية فى اطار الدولة المركزية السورية.