لماذا تصر الإدارة الأمريكية الراحلة على الاعتراف علانية بفشلها وتشويه مؤسساتها التى طالما تباهت بها امام مواطنيها والعالم؟ ولماذا تمعن هذه المؤسسات فى جلد الذات، والاستمتاع بتلقى المزيد من الصفعات والإهانات، بدلا من التفرغ فى صمت لدراسة أسباب القصور وتفادى المزيد من الاعترافات التى تضر بالدولة ومؤسساتها وتنال من مكانة الرئيس الأمريكى الجديد؟!.
التساؤلات كثيرة ومنها ايضا ما يتعلق بالعجز الشديد امام عدد محدود ممن يقولون انهم اخترقوا المنظومة الأمريكية للمعلومات، بما فيها الخاصة بالحزب الديمقراطى الحاكم؟. ونمضى مع التساؤلات لنضيف إليها ما يتعلق بما تصر واشنطن الرسمية على ترويجه من شائعات ومزاعم، بل ومعلومات ترقى من حيث المضمون، إلى حد اتهام الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب بالخيانة، والسقوط فى شرك أعداء الوطن بما ينال من سمعة الدولة ووقارها.
ولذا فمن الطبيعى ان يكون الاستنتاج الذى يمكن ان يخلص إليه القاصى والداني، وبغض النظر عن مدى وابعاد وماهية علاقاته بالأنظمة التى تشارف مهمتها على نهايتها فى غضون الأيام القلائل المقبلة، هو ان روسيا تبدو اليوم وقد أجهزت على كرامة هذه الدولة بالقاضية، وليس بالنقاط او لمس الاكتاف، حسب مصطلحات الرياضة التى حاولت واشنطن ان تستخدمها سلاحا ضد غريمتها التاريخية روسيا واستطاعت معه إبعادها عن ساحات المنافسة الشريفة مثلما حدث قبيل وخلال الدورة الاوليمبية الأخيرة فى البرازيل.
وهنا يتساءل بسطاء المواطنين فى الداخل والخارج، عما كانت تفعله المخابرات المركزية الأمريكية طوال السنوات الماضية ومنذ راحت تعلن بأعلى الصوت انها تظل السلاح الأمضى والأكثر فعالية الذى طالما استخدمته الإدارات الأمريكية السابقة، جمهورية كانت او ديمقراطية، فى تحقيق النصر على الاتحاد السوفييتى السابق، لانفرادها بالقرار الدولى وفرض هيمنتها على العالم الأحادى القطب وليس المتعدد الأقطاب.
وبغض النظر عن عدم دقة هذه المزاعم والادعاءات، فان ما شهدته الأشهر الاخيرة التى استغرقتها آخر الجولات الانتخابية لمرشحى الحزبين الجمهورى دونالد ترامب، والديمقراطى هيلارى كلينتون، من أحداث ووقائع تقول ان موسكو الرسمية، وتحديدا الرئيس فلاديمير بوتين وإدارة الكرملين، كانت شديدة الحرص على عدم التورط فيما قد يعتبره الناخب الأمريكى تأييدا لمرشح دون آخر، رغم اتساع مساحات التقارب والارتياح مع الكثير من تصريحات دونالد ترامب، وخاصة ما يتعلق منها بالأوضاع فى سوريا واوكرانيا، والموقف من شبه جزيرة القرم، واحتمالات التعاون مع بوتين فى مكافحة الاٍرهاب .
ورغم ان روسيا كانت ولا تزال تملك، وبحساب المصالح ومقتضيات اللحظة، حق متابعة مجريات الحملات الانتخابية الرئاسية، أينما جرت، تحسبًا لأى ما من شأنه الإضرار بمصالحها الوطنية، فان احدا لم يستطع بعد رصد او اكتشاف ما شاب ويشوب مواقفها من مخالفات قانونية، او ما قد يعتبره البعض تدخلا فى الشئون الداخلية للغير.
لماذا اذن تصرخ «امريكا» وتجأر بالشكوى مما تقول انه «تدخل سافر» من جانب موسكو فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية الاخيرة؟. ألم تكن هى البادئة بالتدخل فى الشئون السوفييتية؟ ألم تكن الإدارة الأمريكية ابان سنوات حكم الرئيسين الجمهوريين رونالد ريجان وجورج بوش الاب هى التى راحت تختال زهوا وفخرا بانها كانت وراء إسقاط الاتحاد السوفييتى وتحقيق النصر فى الحرب الباردة فى نهاية تسعينيات القرن الماضي؟ ألم يكن جورج بوش الاب، وليس ميخائيل جورباتشوف، هو اول من تلقى تقرير حكام روسيا واوكرانيا وبيلاروس الذى ابلغه به بوريس يلتسين بعد توقيع اتفاقيات بيلافجسكويه بوشا فى 8 ديسمبر 1991 والتى كانت الاساس القانونى لتفكيك الاتحاد السوفييتي،؟ ألم تعث واشنطن وعملاؤها فسادا فى روسيا والفضاء السوفييتى السابق طيلة تسعينيات القرن الماضى بمباركة ضمنية من بوريس يلتسين وانصاره؟.
وفى استعراض «خاطف» لما جرى من أحداث ووقائع خلال الفترة التى اعقبت سقوط الاتحاد السوفييتى يمكن تلمس الاعذار لما يكون قد وقع من جانب موسكو، وبما يمكن ان يصدق معه القول ان «البادئ أظلم». وبهذا الشأن نعيد إلى الأذهان ما سبق وحذر الرئيس بوتين منه مرارا وتكرارا حول ان روسيا تحتفظ لنفسها بحق الرد. وكان قالها صراحة فى خطابه الذى ألقاه فى مؤتمر الأمن الأوروبى فى ميونيخ فى فبراير 2007 حول «ان الروس قادمون». قالها حين اعلن عن ضرورة انتهاء عالم القطب الواحد ووضع حد لانفراد قوة بعينها بالقرار الدولى بعيدا عن مؤسسات الشرعية الدولية. وقالها ثانية حين أعلن عزمه على استعادة قدرات بلاده العسكرية. واعادها ثالثة ورابعة وخامسة، فى اكثر من مناسبة كشف خلالها عن ملامح تطوير ترسانته العسكرية بما فى ذلك ابان حملته العسكرية التى بدأها فى سوريا فى 30 سبتمبر 2015. ونذكر ان بوتين كان قد استهل حملته الانتخابية قبيل ولايته الثالثة بعدد من المقالات والخطابات التى تناولت ضمنا العلاقات الروسية الأمريكية، وقال فيه « لقد عملنا كثيرا لتطوير العلاقات الروسية الأمريكية فى السنوات الأخيرة. لكن تغييرا جوهريا لم يطرأ بعد على هذه العلاقات حتى اليوم، وانها لاتزال تتعرض إلى المد والجزر لجملة أسباب ومنها استمرار الآراء والكليشيهات القديمة». ومضى الرئيس الروسى ليؤكد «أن السبب الرئيسى هو أن الحوار السياسى والتعاون بين روسيا وأمريكا لا يستندان إلى أساس اقتصادى وطيد». ولم يغفل بوتين الإشارة إلى ان محاولات الولايات المتحدة للتأثير على الحملات الانتخابية فى روسيا لا تساعد على تعزيز التفاهم المشترك».
هكذا صراحة حذر بوتين من محاولات تدخل الإدارة الأمريكية فى الحملات الانتخابية فى روسيا. إذن «أعذر من أنذر»! أليس كذلك؟ . المهم أنه وبمنطق الفروسية، لم يجأر بالشكوى ويصرخ عند كل قارعة طريق من تبعات ما يفعله الامريكيون.
وفيما كان بوتين حذر ايضا من مغبة «الخطة الأمريكية لإقامة نظام دفاعى مضاد للصواريخ فى أوروبا» التى قال «انها تُقلق روسيا بوصفها الدولة الوحيدة التى تملك قوات الردع النووى فى مجال عمل النظام المضاد المزمع إنشاؤه ولأن هذه الخطة تخل بالتوازن العسكرى السياسي»، فقد عكفت مؤسساته الصناعية والعسكرية على دراسة ما يمكن ان ترد به «الصاع صاعين»، وهو ما كشف عن بعضه خلال عملياته العسكرية فى سوريا من منظومات صاروخية متناهية الدقة والتى اطلقتها سفنه الحربية من جنوب غربى بحر قزوين وشرق المتوسط. وفى هذا الصدد نشير الى ما سبق أن أعرب عنه بوتين من استعداد للتعاون مع الولايات المتحدة حين قال فى معرض تناوله للعلاقات الروسية الأمريكية : «عموما، نحن مستعدون لتحقيق تقدم كبير بل واختراق نوعى على صعيد العلاقات مع الولايات المتحدة بشرط أن يتصرف الأمريكيون من منطلق الشراكة المتكافئة والاحترام المتبادل».
وأظن ان ذلك هو ما بلغ أسماع الرئيس الامريكى الجديد دونالد ترامب، وما قد يكون اساسا جيدا لانطلاقة نوعية مغايرة لتلك التى بدأ بها الرئيس الامريكى المنتهية ولايته، حين أوفد وزيرة خارجيته هيلارى كلينتون الى جنيف لتستعرض مع نظيرها الروسى سيرجى لافروف «آليتها الجديدة» لاعادة اطلاق العلاقات الروسية الامريكية، والتى لم تكن سوى «ماكيت لزر الكتروني»، أثبتت الاحداث التالية أنه لم يكن متصلا بأي آليات أخرى لتشغيله. ولذا فإن موسكو، وعلى ما يبدو ليست فى عجلة من أمرها، وكأن لسان حالها يقول : «إن غداً لنَاظِرِهِ قريب»، وهو قول مأثور يمكن ان نضيف اليه قولا آخر: «وهل يجدى البكاء على اللبن المسكوب»؟.