26 يونيو 2025
“من أنت؟ وما هي جذورك؟”
سؤال بسيط تم طرحه على مائدة عشاء في منزل بعض الأصدقاء في أمستردام، لكنه ظل عالقا في الهواء كسكين ينزل ببطء. ابتسمت. ليس لأن الجواب سهل، بل لأنه ثقيل.
كيف أشرح أنني قبطي مصري، وفي نفس الوقت هولندي؟ أنني إنسان ينتمي إلى حضارتين، وثقافتين، ومسارين من الألم والأمل.
أنا قبطي. وأنا هولندي.
ولدت في مصر، وترعرعت فيها، ودرست فيها حتى سن الحادية والعشرين, لكنني بنيت حياة جديدة في هولندا. درست، عملت، ساهمت على أصعدة مختلفة، أسست عائلة، وأحببت هذا البلد الذي علمني الديمقراطية. هويتي ليست مصرية فقط ولا هولندية فقط. هي مزيج راسخ من أرقي ما تحتوي عليه هاتين الثقافتين. هويتي تمثل حلقة وصل, جسر بين الشرق والغرب و بين الماضي والمستقبل. بين الألم والثقة.
أقباط مصر: حراس الإيمان المسيحي الأصيل
كان أثناسيوس الكبير – قبل ما يقرب من 1700 عام – من صاغ قوانين وأركان عقيدتنا في عصر سيطرت عليه الهرطقات والبدع , والتي ما زلنا نؤمن بها إلى
اليوم: نقية، خالدة، كجوهرة مشذبة مصقلة في خزانة الإيمان.
قبل أن يعرف الغرب شيئا عن الرهبنة، كان رهباننا قد اختاروا الصحراء، لا هربًا، بل عشقًا للصمت وصفاء الروح والتفرغ الكامل لله. في عمق الصحراء، بين الرمال والشمس، نشأت روحانية صمدت عبر القرون. النسك كجواب على العالم، والصلاة كأنفاس الروح, دم وصلاة – تاريخ شعب
مصر، عام 641
الجيوش العربية تدخل وتخضع الأقباط للجزية أو الإسلام أو الموت. اختار أجدادي الصليب، دفعوا. عانوا. نجوا. لكن البقاء لا يعني الحياة.
أصبحنا “أهل ذمة” – مقبولين في بلاد أجدادنا ولكن دون حقوق متساوية.
كنائسنا لا تعلو فوق المساجد، وأجراسنا لا تعلو على الأذان، ونساؤنا يخفين صلبانهن خوفًا من التحرش والاعتداء.
في الثمانينيات من القرن الماضي جاء العنف: ترويع، إختطاف, سرقة, قتل, تدمير كنائس.
الرئيس السادات وصفنا بـ “الطابور الخامس”
وكأننا أحفاد رمسيس وأحمس غرباء في وطننا. وكأن إيماننا بأكثر ديانات العالم إتباعا جرم وفسق وضلالة.
الخروج – لماذا جئت إلى هولندا
لم آتِ لاجئًا، بل طالبًا للحياة والعلم والخبرات. جئت للديمقراطية، للعدالة، للمساواة,
لكن هولندا لم تؤمن بي. سألتني موظفة حكومية، وقد ارتسمت على ملامحها ظلال الاستغراب: “هل جامعتك في مصر معترف بها أصلًا؟”
وكأنني أحمل شهادة من غياهب الغابات، لا من ضفاف النيل، وكأنني أتيت من عتمة المجهول، لا من أرض أشرقت فيها شمس الحضارة منذ سبعة آلاف عام،
تجاهلتُ في سؤالها تاريخًا من المجد، وعراقةً من العلم، وكأنها لم تسمع يومًا عن مصر التي علّمت الدنيا معنى المعرفة. شهاداتي كانت موضع شك، لكن لحسن الحظ قالت إحدى المشرفات على دراستي . وبسعيها المخلص فتحت لي بابا.”هذا “ظلم
إقتنصت الفرصة. تعلمت اللغة. عملت. بنيت.لكني بقيت دائمًا “الآخر”.
في التعليم، في السياسة، في سوق العمل. أنا لست ضحية. أنا مناضل، لكن النضال أرهقني. مرآة الأقلية ، ماذا تخسر الأوطان حين تدير ظهرها لأقلياتها؟
إنها تخسر نبض روحها. وتطفيء بعضا من وهجها الإنساني.
أنا قبطي، نعم,
لكنني أيضًا هولندي.
مواطن يحمل في قلبه حب الأرض, ورب أسرة يزرع الأمل في أطفاله, وخبير يحمل المعرفة, ومثقف ينثر النور. لسنا طلاب إمتيازات, بل طلاب إعتراف.
إعتراف بأننا خيط أصيل في نسيج الحكاية, وبأن لنا مكانًا في الغد، وفي الحلم، وفي الرجاء، أنا قبطي. أنا هولندي. وأطالب بمكاني بينكم,
أنا لست تهديدًا، بل جسرًا يمتد بين الضفتين، يحمل في عبوره رسالة وحدة وأمل. علّمني أجدادي الأقباط: أن الوفاء أقوى من القوة وأن الورع أعمق من النجاح.
نحن لا نطلب امتيازات، بل نطلب اعترافًا.
تمدح هولندا التنوع، لكنها تطلب الاندماج — اندماجًا كاملاً
وحتى عندما نندمج… نُرفض، يُقال لنا: “اندمجوا” ،لكن لا أحد يسأل: “من أنتم حقًا؟ ومصر؟
اليوم… يلوح الأمل.
الرئيس السيسي — ليس قديسًا، لكنه رجل وطني, بنى أكبر كاتدرائية في الشرق الأوسط ، يشارك في قدّاسات الميلاد ،ويتحدث عن المصريين، لا عن “مسلمين” و”مسيحيين”.
نعم، الطريق لا يزال طويلًا, لكن الشمس أشرقت، وأنا أخاطب مجتمع الأغلبية – في مصر وهولندا، انظروا إلينا. اسمعونا. لا تختزلونا في “النصارى الذميين” أو “العمال الوافدين” أو “المهاجرين” أو “المسلمين” ،إلى إخوتي الأقباط في مصر وفي بلاد المهجر، تحدثوا. اكتبوا. افتخروا بإيمانكم وتاريخكم وتراثكم, صوتنا هو بداية التعبير عن وجودنا.
إلى كل أقلية:
وجودكم مهم ، معاناتكم وآلامكم ليست خفية, ونضالنا واحد، وإلى نفسي، كل يوم: قف. تأمل. تعلم. واصل. آمن.فالحكاية لم تنتهِ بعد.
وقصتنا – وقصتكم – تستحق نهاية أخرى.
د. عاطف حمدي
خبير في العلوم السياسية