أمستردام 6 يوليو 2025
لا يزال غبار أسيوط عالقًا في طفولتي.
كنت في الثانية عشرة، أقبض كفيّ غضبًا على الإساءة والاضطهاد.
قال أبي مُستشهدًا بإنجيل متى:
“وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ”.
ضحكتُ. صرخت بدهشةٍ هستيرية.
أأصلي؟ للجلادين؟
بدت كلماته استسلامًا. ضعفًا.
واليوم
أري ماريا على شاشتي
ابنها قُتل بالرصاص.
وهي تقف أمام قاتل ابنها
تهمس: “سامحتك.. باسم المسيح”
يدها تلامس خده – لمسة ألطف من نسمات الربيع وأعنف من ريح الصحراء
“إلهي سيُغيّرك”
أبكي
فأتذكر ضحكاتي وانفعالاتي الهيستيرية قبل أربعين عامًا.
كانت ضحكتي درعي ضدّ كلمات أبي:
“القلوب شريرة.. مملوءة كراهية.. مساكين يحتاجون صلواتنا”
فلم أُصَلِّ.
أغلقتُ كتب الصلاة.
وقف أبي يُعلّمني لغة الصحراء
انظر يا بُني:
“الصبرُ هنا يتنفّس كالنسيم بين الكثبان.
تعلّم منه؟
واذكر أنَّ الله يصوغنا كالذهب،
بطيئًا…
عميقًا…
مثلما تُنحت الأيقونات من خشب الزيتون.”
كل تفجيرٍ يستهدف كنيسةً.
كل ترويع. كل تكفيرٍ يحاول طمس إيماننا وهويّتنا.
كل نظرةٍ استعلائية مهينة.
كُلُّ صَرْخَةٍ: “َلا مَكَانَ لَكُمْ فِي بِلَادِ المُسْلِمِين”
وَكَأَنَّنَا لَسْنَا بُنَاةَ هَذِهِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ عَرَب أو مسلمون.
كُلُّهَا صَقَلَتْنِي كَالنَّارِ تُصَقِّلُ الذَّهَبَ
لَمْ تُصْغِنِي حِقْدًا.. بَلْ إِدْرَاكًا لِجَوْهَرِ الْإِيمَانِ
لم تزرع فيّ شوكة الغضب.. بل زهرة التسامح
لَمْ تَجْعَلْنِي أَنْكَسِرُ كَالْعُودِ.. بَلْ أَتَشَبَّثُ بِالصَّلِيبِ كَالْجَبَل
ظلت كلمات أبي. نَمَت فيّ. كشجرة تينٍ تشقّ الصخر.
فنحن الأقباط.. سادةُ التَّنَاقُضِ المقدّس..
“نَحْنُ الأَقْبَاطُ.. حَمَلَةُ سِرِّ الصَّلِيبِ
قوتنا؟ تكمن في ضعفنا
انتقامنا؟ هو طلب الغفران والنعمة لمضطهدينا.
كبرياؤنا؟ ينحني في الصلاة.
كلمات المسيح.. محفورة في عظامنا:
“تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ»” (٢ كورنثوس ١٢: ٩)
يعرفها جيل الآباء.
يحملون الغفران رداءً. سلاحًا.
صلوات ماريا من أجل خلاص قاتل ابنها ليست استسلامًا.
إنها ثورةٌ.
تَمْحُو الشَّرَّ بِالْحُبِّ.
تفتح قلوبًا ليعمل الله فيها.
أما الشباب؟
نعاني. غضبنا حارٌّ.. عادل
لكن نظرة ماريا.. صوت أبي … –
يهمسان: “الكراهية تُطعم الوحش”.
أما الرحمة الغفران والنعمة – فَيُعيدان تشكيل قلبه.
الغفران ليس هزيمة
بل هو السلاح الوحيد الذي يكسر دائرة الدم.
قوة بنات فرعون اللواتي أنقذن موسى.
قوة آباء الصحراء الذين صلّوا لاضطهادهم.
قوة الأقباط الَّذِينَ بَنَوْا الْكَنَائِسَ فِي جَوْفِ الْجِبَالِ وَهُمْ يُرْجَمُون.
قوة النَّخْلَةِ الَّتِي تَنْحَنِي بِالرِّيحِ.. لِكَيْ لَا تَنْكَسِر.
قوة الْبَذْرَةِ الَّتِي تَمُوتُ فِي التُّرَابِ.. لِتُنْتِجَ أَلْفَ حَبَّةٍ.
لإبني:
لا تشكّ يا ولدي,
هذا الإيمان ليس ضعفًا. إنه ايمانا بإرادة وبعدالة الخالق.
هو أعمق هويّاتنا.
جذورنا أقدم من الأهرامات.
رجاؤنا؟ أعمق من النيل.
عندما يضربونك.. صَلِّ لهم.
عندما يكرهونك.. احتضنهم بنعمة.
ففي ذلك الضعف تتجلّى قوة الله.
كما في ماريا.
كما في جدّك.
كما فيّ.. أخيرًا.
عالَمُنا ليس بحاجةٍ لمزيدٍ من السلاح،
بل لقلوبٍ كقلب مريم،
تهمس فوق ضجيج الكراهية.
هذه وصيتنا حتي يحيا الجميع كإخوة.
صلاتنا هي وطننا.
غفراننا هو انتصارنا.
تزهر الصحراء حيث نركع.
آمين
د. عاطف حمدي
خبير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية