أمستردام، 8 يونيو 2025
بعيدًا في سهول منغوليا الداخلية الجافة، تغير اتجاه الرياح. في مكان لم يكن فيه شيء ينبت سوى الغبار والفقر واليأس، تقفز اليوم أرانب ركس بين أعشابٍ خضراء مورقة. ليست سرابًا. وليست حملة دعائية. بل نتيجة لسياسة واقعية، هادئة، هادفة… وثورية.
في “دالاد بانر” – منطقة منسية تعاني التصحر وتغير المناخ والفقر – قررت الصين تغيير المسار جذريًا. لا حلول مؤقتة، لا برامج مساعدات، لا خطب ولا مواعظ أخلاقية، ولا شروط أو إملاءات أو إجبار متعسف. بل تحوّل جذري في المنظومة. نظام حوكمة يربط بين الأرض، والإنسان، والسوق.
لا آلات أو معدات. لا طائرات مروحية محملة بالخبراء المحليين والأجانب. بل… أرانب!
أرانب تم إختيارها بعناية ومربّاة بدقة. ليست مصدرًا للحم والفراء فقط، بل رمزًا للأمل. إنها تحسن التربة، تدعم التوازن المناخي والبيئي، تقلل العواصف الرملية، وتمنح الفلاحين دخلًا كريمًا – دون الاعتماد على مساعدات ومعونات حكومية.
هل هذه صدفة؟ بالطبع لا. إنها إدارة حكومية فعالة. تصيغ وتنفذ السياسات والإستراتيجيات البيئية بكل حكمة وحنكة ودبلوماسية.
دبلوماسية البيئة المستدامة الصينية:
الصين تنتهج نوعًا جديدًا من الدبلوماسية. لا جنود، لا عقوبات، ولا مساعدات مشروطة تخدم المانح. بل معرفة، وتكنولوجيا، وشراكة حقيقية، ومنفعة متبادلة.
من إثيوبيا إلى باكستان، ومن مصر إلى أمريكا اللاتينية – تظهر بصمات هذا النهج في إنشاء غابات جديدة، ونظم ريّ متكاملة، ومكافحة التصحر بوسائل عملية.
وماذا عنّا؟
كيف يتعامل بلد متقدم مثل هولندا مع التحديات البيئية التي تواجهها – أزمة النيتروجين كمثال؟ نحن غارقون في بيروقراطية، نزاعات مصلحية، وصراعات أفقية: فلاحون ضد ناشطين بيئيين، صدام المدينة والريف, نقاشات حادة بين السكان وأصحاب المصانع………. وللاسف لا يحدث أي شيء يذكر.
بينما الصين تنسّق بين قطاع الزراعة والبيئة والاقتصاد ضمن رؤية طويلة الأمد، نجد أنفسنا هنا في هولندة محاصَرون في شبكة من إجراءات رسمية، ومصالح ضيقة، وخوف من خسارة الناخبين. لا تخطيط استراتيجي – بل شلل إداري. مصلحة القلة القصيرة الأجل تطغي على المصلحة العامة.
إن الصين تظهر أن هناك طرقًا أخرى: ليس بالكلمات الكبرى، بل بخطوات صغيرة ذات أثر كبير. ليس بالتوجيه، بل بالثقة – في الكفاءات المحلية والتفكير بعيد المدى.
ولكن بدلاً من التعلم، نختار النقد والتسفيه والتحذير. نعم، النقد ضروري – حقوق الإنسان، والديمقراطية، والشفافية اساسية لكل دولة ومجتمع. لكن علينا أن نسأل أنفسنا: أين عزيمتنا؟ وأين شجاعتنا بتجاوز الدورات الانتخابية؟
مشروع أرانب ركس ليس مجرد فضول. إنه دليل على رؤية عالمية جديدة: التنمية ليست كأداة للتبعية والهيمنة، بل كمسئولية مشتركة.
علينا أن نستفيق. فالمستقبل لا يُصاغ فقط في لاهاي، بروكسل أو واشنطن. أحيانًا يبدأ في مزرعة أرانب وسط الصحراء، وبقادة حكوميين يملكون الشجاعة للإصغاء — لا لأصواتهم فقط، بل لصمت المناطق المنسية وتحديات وطموحات من يقطنونها.
تُثبت الصين يوما بعد يوم أن التنمية المستدامة ممكنة. لكنها تتطلب رؤية، وشجاعة، وقبل كل شيء التحرر من عقدة التفوق الغربي.
عاطف حمدي
خبير في السياسات العامة