أمستردام، 13 يونيو 2025
كان هناك وقتٌ كنت أؤمن فيه أن المعرفة تفتح الأبواب من تلقاء نفسها. وأن الشهادة الأكاديمية الهولندية، والتحليل العميق، والخبرة الدولية، تكفيك لتكون جزءًا من عملية البناء والمشاركة في صياغة مستقبل البلد الذي أعيش فيه الآن أكثر مما عشت في مسقط رأسي.
قبل خمسة وثلاثين عامًا، جئت إلى هولندا. شابًا، متعطشًا للعلم، مفعمًا بالأمل. درستُ العلوم السياسية، وانبهرت بعالم السياسة والسلطة والدبلوماسية والتدريب. وعلى مدار عقود، أدركت الدور المحوري للإدارة الحكومية في تسيير شؤون الدولة والمجتمع، والتعامل مع التحديات والأزمات، واستشراف المستقبل وتحقيق الطموحات. وكانت رسالتي، كمواطن هولندي جديد، واضحة: أن أُسهم في بناء مجتمع يخدم الجميع – إنساني، عادل، يركّز على المستقبل. مجتمع مستدام. أردت أن أكون جزءًا من الحلول، لا من المشكلات.
لكن ما واجهني كان الصمت. ثم الأبواب المغلقة. نظرات مريبة. خوف. ريبة وشك. ليس بسبب ما أقوله أو أعتنقه، بل بسبب من أكون. أنا، لحسن الحظ، لا أمثّل الصورة النمطية. لستُ ضحية، ولا لاجئًا سياسيًا، ولا عاملًا أميًّا لوظيفة هامشية موسمية. وربما لهذا السبب بالتحديد، كان من الصعب تصنيفي أو قبولي. نسمع كثيرًا كلمات جميلة عن التنوع، لكن الواقع غالبًا ما يظل متحفظًا، إن لم يكن تمييزيًا وإقصائيًا. فالمجهول مرفوض بطبعه، ولكن أن يحدث ذلك في بلد يصف نفسه بالانفتاح والتعددية والشمولية والتسامح… فهذا أمر صادم.
ومع ذلك، بقيت. وشاركت. وأنجزت. وكان آخر أدواري كمنسّق استراتيجيات في الوكالة الإقليمية للاستثمار والتنمية في محافظة شمال هولندا، ومقرها العاصمة, مدينة هارلم. وهناك كرّست وقتي وطاقتي لمواجهة تحديات التحول الكبرى: التحول الطاقي، والانتقال إلى الاقتصاد الدائري، وإعادة صياغة نظم الزراعة والغذاء على أساس بيئي وعدالة اجتماعية.
لم تكن الاستدامة بالنسبة لي شعارًا سياسيًا، بل واجبًا أخلاقيًا. لم تكن موضة، بل بوصلة. لم تكن فقط لجيلنا المعاصر، بل للأجيال القادمة من أولادنا وأحفادنا.
قرأت كل شيء. من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة إلى الصفقة الخضراء الخاصة بالمفوضية الأوروبية، ومن البرامج الوطنية للطاقة والاقتصاد الدائري إلى الخطط التنفيذية على مستوى الأقاليم. تحدثت مع موظفين حكوميين، ورواد أعمال، وباحثين. زرت شركات صغيرة تسعى، بإمكانيات محدودة وبإصرار كبير، إلى إحداث اختراعات وابتكارات حقيقية. وتعلّمت: أن تغيير النظام يتطلب أكثر من النوايا الطيبة. إنه يتطلب رؤية، واستراتيجية، وقيادة، وترابطًا، وثقة، وشجاعة، ووقتًا، وصدقًا. وقبل كل شيء: يتطلب المواطن.
لكن، ماذا أرى؟ قرارات متأخرة. حذر سياسي. سياسات متناثرة. تنافس مدمر بدل من التعاون. حكومة تراقب ولا تقود. في حين أن ما نحتاجه اليوم هو نهج تكاملي: ربط المجالات، تنسيق المصالح، الجرأة في اتخاذ القرارات، والقدرة على تغيير الأنظمة. فلا استدامة بلا ترابط، ولا مستقبل بلا رؤية وقيادة وإدراك وإلهام.
لست مناضلًا بيئيًا. أنا استراتيجي وخبير دولي في الإدارة الحكومية، ورابط بين العوالم. مفكر وفاعل في آنٍ واحد. قوتي في رؤية الصورة الكاملة، وفي بناء الجسور بين السياسات والتطبيق، بين هولندا والمنطقة العربية، بين المؤسسات والأفراد. ليس على الرغم من خلفيتي، بل بفضلها. أنا لا أمثّل رقمًا إضافيًا أو استثناءً، بل قيمة مضافة.
ومع ذلك، أشعر كثيرًا بذلك الخوف وتلك الريبة الصامتة. النظرة التي تقول: “ماذا تفعل هنا؟” الصمت الذي يصرخ أكثر من الكلمات. وكأن معرفتي ورؤايا لا يٌعترف بها إلا إذا كررها آخر. وكأن مشاركتي وشغفي لا يُسمح لهما بالوجود إلا إذا التزمت الصمت.
لذا أقولها علنًا: أريد المشاركة. أريد أن نفتح باب الحوار. لأن المجهول لا يمكن أن يظل مرفوضًا إلى الأبد – ليس في مجتمع يريد الصمود والإنجاز، ولا في عالم يشتعل. نعم. أنا بدون شك غاضب. وحزين جدا. لكنني لا أسمح للإحباط أن يشلني. غضبي أصبح وقودًا. وخيبتي تحولت إلى التزام وطموحي حاليا الإستمرار في البحث والإلهام.
نعم، أنا غاضب. وأنا حزين أيضًا. لكنني لا أسمح للإحباط بأن يُسكتني. لقد تحوّل غضبي إلى طاقة. وتحولت خيبتي إلى التزام. وطموحي أن أواصل الإلهام والتأثير.
سأستمر في البناء. للشبكات. للثقة. لأنظمة تعمل فعلاً من أجل الإنسان والمجتمع والكوكب. لأننا بمفردنا، لا نستطيع أن نحقق الاستدامة. وربما، يأتي يوم لا يُنظر إليّ ومن مثلي فيه كـ “الآخر”، بل كأحد أولئك الذين – رغم كل شيء – وهبوا أرواحهم بصدق من أجل مستقبل أفضل.
حتى ذلك اليوم، أدعوكم للتعارف. للتواصل. لتبادل الآراء. لنفكر ونتشارك ونفعل.
فهذا وطني. هذه معركتي. وهذه مساهمتي.
د.عاطف حمدي
خبير في السياسات العامة والعلاقات الحكومية
أمستردام، 13 يونيو 2025