الطبعة الثالثة
صادرة عن المركز العربي الألماني / برلين
النسخة مجانية الرقم : 47
هذه الرواية كتبت على أثر أنحدار وتهاوي عربة لحسن الحظ لم تكن كبيرة (فيما بعد تهاوت شاحنات كبيرة للأسف) وتلوثت وتحطمت ….. طبعت هذه الرواية ثلاث مرات، الأولى كانت في عمان / الأردن في دار أكاديميون، والمرة الثانية في لندن، والمرة الثالثة كإحدى منشورات المركو العربي / الألماني، ونالت أستحسانا جمهور من القراء…. هذه مقدمة الرواية مع فائق تقديري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موطني
مدَّ على الأفقِ جناحا
وارتدى مجدَ الحضاراتِ وِشاحا
بُورِكت أرضُ الفراتين وطنٌ
عبقريّ السيفِ عزماً وسماحا
موطني
كم عَشِقتٌ الجلال والجمال في رباكا
كم رأيتُ الحياة والنجاة في هواكا
كم بذلتُ الروح والنفس فداكا
موطني
مقدّمة
أحبّوا أوطانكم وأخلصوا لها تسلموا ……..
تنجون من عضّات الخفّاش والضباع والكلاب الضّالة المسعورة وحتّى من الحشرات والذباب والهوام …
هذه الرواية هي للتفكير والعبرة والاعتبار، فهناك ممّن نعرفهم، يعيشون بيننا، تعرّضوا لعضّة من خفّاش. وظاهرة التعرّض لاعتداء حيواني ليست جديدة في التاريخ الإنساني. إلّا أنّ عضّة الخفّاش هذه كانت سبباً لسقوط بعضهم وكان حدثاً مدوياً ومؤسفاً وكان أمراً مقضياً، منهم من كان صحفياً شهيراً، وآخرون كانوا كتّاباً محترمين، وبعضهم كان مناضلاً في صفوف الحركة الوطنية والقومية والتقدمية، فهؤلاء كانوا أولاً كما ثبت ذلك بالتحليل المختبري الدقيق، يعانون أصلاً من نقص مناعة، نفذت فاعليته، وبلغ ذلك في مرحلة ما، في يوم ما، في لحظة ما، ذروة الوهن وليكتشف خفّاش ماهر تلك الذروة، ليمدّ خراطيمه الملوثة امتصاصاً وضخاً. حاول من تعرّض للعضة الخفاش في البداية التمثيل على مسارح أنشطتهم، ربّما نجحوا لحين، ولكن أصباغ المكياج سرعان ما سالت على وجوههم وثيابهم بسبب حرارة الجوّ حول المسرح، وسرى ما بثّه الخفّاش في شرايينهم، فصاروا يتحدثون ويكتبون خلافاً على ما يدلّ عليه الموقف، كأيّ إنسان آلي (روبوت) مبرمج تكنولوجياً (وربّما للأمر علاقة بالهندسة الوراثية).
الموت السريري مصطلح طبّي معروف ومألوف في كافة المجتمعات، يعني الوفاة الفعلية للمصاب، مع بقاء الأجهزة تعمل بوسائط تكنيكية، وللأمر وجه آخر سيما في تلك البلدان التي ما تزال تحتوي على أفاعٍ وعقارب وعناكب سامّة، وربما بعض الأنواع السفلى من الخفافيش السامة الكريهة المنظر والتي يحتوي لعابها على سموم مؤذية ربما تكون قاتلة. ولكن في ضرب من التشبيه الفني، والفنتازيا، لنتأمل بعض من تساقطوا من الذين انتهى أمرهم، فتكسرت أقلامهم بعد أن أهانوها وتمزّقت البراقع والأقنعة من على وجوههم فغدا منظرهم مخزياً، فهؤلاء ماتوا نظرياً وعملياً ولم يعودوا سوى أشباح لا قيمة لها إلّا إذا اعتبرنا أنّ الخفاش الذي يطير من حقل لحقل مؤذياً للبشر والحيوانات يمثل شيئاً ما ……
الخفاش حيوان يعتاش على دماء ضحاياه، ووفق هذه النظرية البايولوجية، من المؤكّد أنّه في هذه الحالة سوف لن يكترث لمصير ضحاياه، فربما أنّهم سوف لن يموتوا سريرياً، أي أنهم سوف لن تسجّل وتصدر بحقهم شهادات وفاة رسمية، نظامية، ولكنه ضرب من الموت الغير معلن (مع الاعتذار لغابريل ماركيز *)، إنه إشهار لنهاية مسيرة : فكرية، صحفية، فكرية، نضالية، اعتبارية، فبعض الناس سيدركون ذلك بالضبط وبدقة تامة، وآخرين سوف يخمّنون ذلك بدرجة عالية، وآخرين سيأسفون لهذا المصير المفجع، وربما هناك من يهز كتفيه، ثم ماذا … التاريخ يعرف الكثير ممن تساقطوا ذات يوم من عربات ذهبية كانوا يمتطونها وينالون تصفيق الجمهور لأدائهم … ولكنهم تساقطوا لأنهم لا ينتمون للعربة الذهبية أصلاً، بل كانوا قد تسللوا لها ذات يوم، بطريقة أو أخرى، واليوم تساقطوا ولفّهم غبار التاريخ.
هذا انتهى الآن، هكذا ببرودة، وماذا في ذلك، الساقطون تمتعوا يوماً باحترام الناس لهم، وبتصفيق الجماهير واستحسانهم، ونالوا الكثير من المجد، وربما الامتيازات أيضاً، ولكنهم سقطوا الآن لضعف المناعة في صد فيروسات عضة الخفاش، فمكوناتهم البدنية والفكرية لم تعد تفرز ما يمكنها مقاومة عضة الخفاش، والأمر ذاتي وموضوعي في آن واحد وبنسب متفاوتة، وأنا هنا لا أحاول بالطبع إيجاد الأعذار لمن تعرض لعضة الخفاش.
ألححت ذات يوم بالسؤال والاستفسار وضايقت أحد هؤلاء ممن تعرّضوا لعضة الخفاش، وكانت بيننا مودة ورفقة، وبآخر ذرة من بقايا تلك الصلة فاضت منه، وربما دون رغبة منه، لكن لما اعتورته نظراتي وحاصره المنطق، اعترف أنه يقبض مبلغ لا يتجاوز المائة وخمسون دولاراً، من السلطنة العظمى، ونظر إليّ بنظرة استعطاف وذل رهيبة قائلاً : ” يا صديقي الحياة صعبة، وهذه السيارة لوحدها (وكنا نركب في سيارته) تكلّف من الضرائب والوقود الشيء الفلاني، ناهيك عن مصروفات أخرى، (وكان قد تورّط بعلاقات تزيد من إنفاقه)، وهذا المبلغ يكفي بالكاد “.
انكسر الضوء في عين صديقي، ولم يعد يستطع النظر في وجهي، فهو يتذرّع بالواقع الموضوعي الصعب، وأنّه لم يتعمد الذهاب إلى طريق الخفافيش، بل أنّ الخفافيش جاءت إليه والتصقت بجلده الخارجي في البداية وهو لا يعلم كيف نفذت بالتالي إلى مكوناته الداخلية. وفي علم كرة القدم هناك نظرية مسّ الكرة التي يستحق الفريق الذي ارتكبها ضربة جزاء، والنظرية التي يحكم بموجبها الحكام في الساحة. النظرية تقول : يد تبحث عن كرة، أو كرة تبحث عن يد …!. ولست أتبيّن كم للأمر علاقة بموقف صديقي …!
وفي تلك اللحظة الطويلة لم أكن أريد أن أمعن في قتل هذا الصديق وسحقه إذلالاً واحتقاراً، أعطيته وعداً بأنّي سوف لن أشهر باسمه ” إن منظر الإنسان وضميره عندما لم يعد نقياً، هو مفزع أكثر من رؤية جسد يتألّم من العذاب”(**) ولكنّي سأحاول أن أدرئ مخاطر عضة الخفاش على أصدقاء آخرين. فقال لي أنه واثق تماماً بكلمتي والتزامي بما وعدت، وشكرني بكلمات كبيرة، ولكني لم أكن راضياً عن نفسي وعن وعدي الذي أعطيته له..
شغلت هذه الحادثة فكري زمناً طويلاً، لسنوات خلت : لست نادماً على إعطائي كلمة شرف لذلك الذي لم يعد صديقاً بالطبع، وكنت حتى بدون وعد الشرف ذاك، سأحفظ له سره، فأنا لست من هواة نشر الفضائح كالكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا، ولكني وإخلاصاً للسفينة التي أركبها وأعمل بين ركّابها حيناً وملّاحيها حيناً آخر، وحرصاً مني على السفينة وعلى هدف رحلتها النهائي، سأحاول أن أكافح وجود الفئران في السفينة(الخفافيش)، فالفئران كحيوان قارض هي العدو الأكبر للسفينة، وأعتقد أن هذه هي الفكرة الأمثل، فالعبرة لا تكمن في فضح الأسماء بقدر ما تكمن في مكافحة الذين تعرضوا لعضة الخفاش سواء كان ذلك بإرادتهم المطلقة، كالذين تعرضّوا للاغتصاب الجنسي مرة واحدة، فلم ينتفضوا لشرفهم الذي تعرض للعدوان، بل وياللغرابة … امتهنوا الشذوذ واستمتعوا به، وتنبيه واضح لمن هم على وشك السقوط. (*)
قرأت مسرحية اشتهرت في الستينات: الرجل الذي تحول إلى كلب (The Man Who Turned into a Dog) للكاتب الارجنتيني أزفالدو دراجون (1999 ــ 1929 Osvaldo Dragún) وعُرضت على المسرح العراقي مرتين، وبمحتوى مشابه عُرضت في القاهرة أيضاً، وربما وجد البعض فيها فكرة كوميديا، ولكني أراها تراجيديا في غاية العمق، وقد أشرت إليها مرة في أعمالي. وخلاصة الفكرة أن رجلاً محترماً أضطر تحت ظروف قاهرة (أطفال وزوجة حامل) لم يجد رغم محاولاته الحثيثة عملاً يقتات منه بكرامة، فأضطر أن يعمل حارساً بصفة كلب، لأن الكلب الذي يحرس المعمل بنجاح قد نفق، وصاحب المعمل لم يجد كلباً يماثل الكلب الميت في مهارته، لأن يصبح كلب حراسة …! فتوسط صديق للرجل العاطل عن العمل لدى مدير المصنع بتشغيل صديقه العاطل لحاجته القصوى للعمل، عاملاً بصفة كلب.
الفكرة تبدأ باستحالة أن يتحّول رجل إلى كلب، ولا حتى بعمليات جراحية معقدة تلك التي نقرأ أنباءها في الصحف وعلى شاشات التلفاز، ولكن رجلنا هنا تحول إلى كلب مضطراً أو باختياره، على أن يبدأ بنباح طوال الليل، ليوهم من يحاول سرقة المعمل أن هناك كلب حراسة شرس، و بمرور الوقت بدأ الرجل حقاً يتفنّن بالنباح، ومع حلول مشاكله كلها أو بعضها، صار مقتنعاً بأنه فعل الأفضل، فلينبح إذن …… حتى بدأ هو يقتنع بدوره، وحتى زوجته اعتقدت بما أنّ الوهم صار حقيقة، أن رائحة كلاب تبعث منه …!
شاهدتُ مرّة فلماً سينمائياً، عن جرذان ضخمة تقرض ضحاياها في غفلة منهم، أو علناً فتدور تحولّات بيولوجية في أبدان المصابين، كما في سلوكهم الخارجي. ومعروفة هي شائعة أفلام المستذئبين الذين يتحولون بعد عضّة ذئب إلى ذئاب في الليالي المقمرة، وكذلك أفلام مصاصي الدماء (Wampire) الذين لهم صفات الخفافيش في امتصاص دماء ضحاياهم التي يعتاشون عليها، وأن عضة أحدهم تتسبب في انتقال عدوى وصِفة امتصاص الدماء إليهم .
الأدب العربي شهد مبكراً رواية الحيوان، في ترجمة رواية الحكيم بيدبا مع الملك دبشليم على يد الأديب البصري أبو محمد عبدالله المعروف بابن المقفع (المولود عام 724 م والمتوفي 759 م) وكان هذا العمل قد نقل من اللغة الهندية إلى اللغة العربية. وينطوي الكتاب على عبر سياسية، بدرجة رئيسية، ووضع الحوار على ألسنة الحيوانات ربما دفعاً للإحراج الذي تخلقه الصراحة الزائدة، أو لعبرة التعلم من المخلوقات الأدنى. مع أن تأمّل حياة النمل والنحل وربما حيوانات أخرى تنطوي على عبر مهمة، على أن فكرة وضع الأفكار على أفواه المجانين أو السكارى هي فكرة غالباً ما يلجأ لها حتى فطاحل الأدباء.
سأبحث الفكرة من زاوية اخترتها، كل شيء فيها واقعي وحقيقي، وليس فيها من الفنتازيا الخيالية إلا الشيء القليل جداً، لا أريد أن أبحث في مفردات العمل الخفاشي، ففي تلك اليوم تفاصيل وتقنيات لا تهمني كثيراً، الرواية محاولة إبحار في الذات الإنسانية التي تتعرض للضعف في لحظة، وستكون هناك خفافيش تنتظر بلهفة هذه اللحظة. أمّا لماذا يضعف الإنسان، ذلك هو السؤال المهم، فلا شكّ أن الظروف الموضوعية الخارجية بالغة القسوة، وللأسف ليس جميع الأشخاص رجالاً أم نساءً مؤهلين للوقوف بوجه الأعاصير العاتية. الخفافيش موجودة، والمرشحون للّسعات موجودون، لأنّ المقدمات المادية متوفرة فيمن يترشح للّسع والسقوط، فهم يسيرون(إما متعمدين، أو واهمين) في طرق ملتوية مظلمة تنطوي على احتمال توافر الخفافيش فيه. فتكتمل أطراف ما حدث ويحدث من تساقط لأسماء كانت يوماً نظيفة لامعة. والخفافيش كالضباع تشم رائحة تنمّ عن أنّ ضحيتها لا يمانع أن يتعرض للّسع أو يسهل وقوعه في حبائلهم. ولكن هناك حقيقة موضوعية : لا يسقط المرء قبل أن تتوفر فيه شروط السقوط الذاتية قبل الموضوعية، هذه هي المسألة بدرجة رئيسية، لتنجم عنها حالة تتوفر في الشروط الموضوعية ، ولكن الذاتية قبلها.
صادقاً مع نفسي أولاً، ومع القرّاء ثانياً، أقول : إنّي آسفٌ حقاً لمصير من أعرف ممّن تساقطوا أو ممّن لم أعرفهم شخصياً، فقد كنت معجباً ذات يوم بكتابات الكاتب الصحفي الفلاني، وأعمال وبحوث آخر باحث كان لامعاً قبل أن يتحوّل إلى خفاش برتبة عريف، وتفاني وإخلاص صديق أو رفيق، وأريد القول هنا، أنّ على الكاتب أن يكون طليعياً، وأن يخلص للقلم ومداد القلم، فـمداد قلم الكاتب مقدّس كدم الشهيد، فعليه أن لا يقدم على فعل، أو يكتب كلمة ما تشين لاسمه، وأن يحافظ على السفينة وركابها من الفئران والقوارض …. هذا هو هدفه الأوّل … وفي هذه المرحلة التي نحياها أن يحميها من الخفافيش أيضاً، وإيصال السفينة إلى هدفها، وإن عجز عن ذلك، أو فشل، فليتنحّى جانباً ويدع الآخرين يعملون ويمارسون حبهم بالتضحية لما يحبون …! ولكن بعض الكّتاب يعتقدون أن الذي في أدمغتهم هو متاح للبيع لمن يدفع أكثر … وهكذا عملوا فيما يطلق عليه اليوم علاقات عامة.
الكاتب والمثقف ملك الوطن … وغير ذلك مهاوي ومستنقعات غير نظيفة …