يتذكر المثقفون انه في الثمانينات من القرن الماضي كتب كثيرا عن نظرية (ضرب اسفل الجدار) التي وضعها زبجنيو بريجنسكي مستشار الامن القومي للرئيس جيمي كارتر في السبعينيات منه والتي استخدمت لتفكيك الاتحاد السوفيتي ،وخلاصتها بسيطة : اضرب اسفل الجدار ينهار البناء كله،واسفل جدار الاتحاد السوفيتي كان قومياته واديانه وخلفياته الحضارية،فاذا اشعلت الصراعات الدينية والقومية والحضارية في الاتحاد السوفيتي فانه سيواجه عدوا داخليا هو الاخطر عليه من كل الاعداء الخارجيين ،وهذا بالفعل ما حصل،حيث ورطت امريكا الاتحاد السوفيتي في غزو افغانستان، كما اعترف بريجنسكي بعد عقود ، فخلخلته وهيأت لتفككه. وكذلك استهدفت خطة بريجنسكي حركات التحرر والنظم التقدمية ايضا، فكان اسقاط المخابرات الامريكية للشاه في ايران هو المكمل لما طبق في افغانستان، ولكن الهدف كان العراق والقومية العربية بصفتهما التحدي الاكبر للمصالح الغربية وللصهيونية وكيانها في فلسطين.فالتسنن الاسلاموي استخدم في افغانستان ضد السوفييت بينما استخدم التشيع الصفوي في ايران وخارجها ضد التيار القومي العربي وطليعته البعث العربي الاشتراكي ونظامه الوطني في العراق.
فما هو الوجه المخفي في الخطط المخابراتية الغربية والصهيونية والايرانية والذي كان ومازال تهديدا خطيرا لامننا واستقرارنا ونضالنا؟ انه (نظرية اختطاف الرأس) وخلاصتها هي التالية : سيطر على الرأس تضمن تحريك الجسد بدون معوقات كبيرة وسيأخذ الناس التابعين للرأس تحية الولاء لك ووقوفهم ضد من يشكك بالرأس حتى لو خرب الجسد كله، فتسكره ب(المخدارت) وغيرها وتتحكم بقراراته وادواته ونظمه وتستخدم مقدساته لردع من يقاوم،وهذا هو المطلوب مخابراتيا! وفي الدولة الرأس هو الامر بنفاذ القانون وبيده تحريك القوات ومن لا ينفذ يعاقب ،وبما ان السيطره الراس عملية معقدة فانها تحتاج لعدة مراحل مختلفة يجب ان تتعاقب واحدة بعد الاخرى وبسرية ويجب ان تبدو كل مرحلة منفصلة ولا صلة لها بالسابقة ولا باللاحقة، كما يجب ان يبدو المشاركون فيها في حالة تباعد او صراع لاخفاء المحرك الواحد لهم من اجل التمويه ومنع اكتشاف المخطط واحباطه، بل ومن الضروري زج الوطني الحقيقي غير العارف بحقيقة ما يجري في الصراع دفاعا عمن يسيطر على الرأس وهو عدوه!
عندما امم البعث النفط في عام 1972 وجه الضربة الستراتيجية الاهم للغرب الاستعماري وعندها ثبّت الغرب في برامجه ان البعث العدو رقم واحد على المستوى الستراتيجي في العالم الثالث ،ولان اسقاط النظام كان صعبا جدا وضعت استراتيجيه بعيدة المدى متعددة المراحل تتراوح بين الاغراء من اجل الاحتواء التدريجي والسلمي له وبين العداء بالضغوط العنيفة والحصار والحرب …الخ. ولكن وبعد فشل اسلوب الاغراء اتخذ القرار بأسقاط نظام البعث وتدميره واعادة العراق لمرحله ما قبل الصناعه فافتعلت ازمة الكويت وفرض الحصار على العراق بعد العدوان الثلاثيني واستنزف اقتصاديا وعسكريا وحتى معنويا، وكل ذلك كان تمهيدات مرسومة بدقه لغزوه باقل الخسائر من قبل الغرب وقواته . ومع كل الخراب الذي حصل فان القوة البشرية الاساسية التي كانت وراء كل انجازات العراق العظيمة وهو حزب البعث العربي الاشتراكي كان مازال قويا ويقاوم وفشلت خطة اجتثاثه عنفيا بابادة الاف البعثيين واسر اضعاف هذا العدد وتهجير وتشريد ملايين الناس، فما العمل من اجل اكمال السيطرة على العراق ؟ كان يجب اختطاف رأس الحزب لتجنب المزيد من الصراعات العلنية المكلفة والتي كان اثناءها البعث يعزز قواه ، فكيف تم خطف رأس الحزب ؟
لئن تميز العراق اثناء الحكم الوطني بانه عصي على الاختراق من قبل كافة اجهزة مخابرات العالم، وهذا ما اكدته مرحلة ما بعد الغزو، فانه تعرض للانكشاف الشامل عندما هدم الجدار الامني المنيع وهو الاجهزة الامنية للنظام الوطني اضافة للتراجع المقلق لواحدة من اهم اليات امن الحزب وهي تدقيق المنظمات الحزبية الشامل لهوية الرفاق قبل ربطهم بعد انقطاعهم، ومتابعة علاقاتهم وسلوكهم بدقة،وبكل هذه الاليات ضمن الحزب عدم اختراقه وحصن الرفاق باستثناء ثغرة واحدة بقيت صعبة الردم وهي وجود رفاق عرب خارج العراق معرضون للاختراق الامني لانهم يعيشون في اقطارهم، او ان من كان يعيش في العراق منهم كان بين فترة واخرى يزور قطره فيجند هناك من قبل اجهزة المخابرات، وهذا يشمل عراقيين حزبيين وفي الدولة كانوا معرضين للاختراق ولكن بصورة بالغة الحذر والتخطيط .
لنأخذ امثلة ميدانية: تم ضرب الناصريه في مصر باختراق انور السادات مسبقا امنيا وصار هو الرأس بعد رحيل عبدالناصر وكان نائب الرئيس فصار نظامه نقيضا لنظام عبد الناصر وتم التغيير في مصر عبر الرأس وبصورة سلمية . وهذا حصل في فلسطين ايضا مع المقاومه الفلسطينيه بالسيطره على رؤوس بعض من قادة فصائل المقاومة الفلسطينية واول خطوات ذلك كانت اغراقها بالمال العربي، وتشجيع العلنية وتأسيس مقرات مكشوفة في كل مكان، بدفع امريكي صهيوني مخفي، وتلك هي مقدمات السيطرة عليها، كما اكد القائد الفيتنامي الجنرال جياب قاهر امريكا عندما زار مقرات منظمات فلسطينية في لبنان وصدمته رفاهيتها وعلنيتها واكد انها ستواجه الفشل! فالمقر يحدد مكانك للعدو فيصفيك ان ابديت مناعة ثابتة، والمال يغير سايكولوجيتك تماما ويزرع فيك روح المساومة بدل المقاومة، وهو ما لم تكتشفه رؤوس بعض الفصائل الا بعد وقوع الفأس بالرأس،فبقيت الاسماء كما هي والقادة كما هم بغالبيتهم ولكن الدور تغير بعد اوسلو والاعتراف بالكيان الصهيوني لدرجة انك ترى من حمل السلاح بصدق هو نفسه من وقع على اتفاقية اوسلو وبصدق ايضا ! فهل كان ذلك ممكنا لو لم تتم عملية اختطاف الرأس؟
هنا نتوقف لنطرح سؤالا جوهريا : هل بالامكان اختطاف رأس البعث التنظيمي؟ وقبل الجواب لابد من طرح سؤال اهم منه وهو: هل من يشغل موقعا في القيادة القومية حاليا يملك شروط من شغله قبل غزو العراق ؟ الجواب على السؤال الاول هو: نعم ممكن فالرأس بشر والبشر خطاؤون ولا يوجد بشر معصوم ومن الغباء افتراض حصانة ومعصومية البشر، والثقة بهم مشروطة، ولذلك فان الحسابات الصحيحة تفرض فرضا توقع احتمال انحراف اي حزبي ومن اي مستوى، وهو ما حذر منه الرفيق احمد ميشيل عفلق في بداية السبعينيات، وكانت تجربة حافظ اسد وزمرته وردة 23 شباط عام 1966 خير مثال على تطبيق خطة اختطاف الرأس من اجل السيطرة على الجسد كله او اغلبه او بعضه ، فقد بقي اسم الحزب ومقراته ولكن فقد جوهره اي عقيدته وستراتيجيته القومية وقيمه الاخلاقية ، وما نراه الان هو اسم البعث ولكنه غاطس ببحيرة فساد ودم ودموع وتراجع يجعل الانسان ينظر باحتقار لما يراه في سوريا.
اضرب اسفل جدار الحزب ستجعله يتفكك ويصبح على وشك الانهيار واسفل جدار الحزب هو نظامه الداخلي والتمسك به وبالعلاقات الرفاقية الودية ومنع التجاوز والاستفزاز،فاذا ضربت اسفل جدار الحزب وهو قواعد التحكم به والتي تحميه من التفكك تكون عملية اعداد الحزب للفوضى قد توفرت وهي فقدانه لكل ضابط اخلاقي وعقائدي ولكل بوصلة تهديه للطريق الصحيح ، وهكذا يتعرض الرأس اي القيادة للدوار والدوخة ويفقد بوصلته فيضيع وتنهار الثقة بين الرفاق وينشغلون بتصفية بعضهم للبعض الاخر وتصبح عملية خطفه سهلة! ونهاية خطوات الخاطفين هي تهديم بناية الحزب على ساكنيها فلا يخرج منها احد سالما، فكيف نفذت هذه الخطة ومن نفذها ؟ ولكي تكون الصورة اكثر وضوحا وقبل تقديم الرد على سؤال كيفية احتواء اعضاء في القيادة القومية من قبل اجهزة المخابرات لابد من مشاهدة خطاب للرئيس الامريكي باراك اوباما القاه مؤخرا وفيه يؤكد بان مخابراته تبدأ بالسيطرة على بلد بنشر الخلافات والاكاذيب ونظريات المؤامرة بين القوى فيه وبث الاشاعات التي تشوه صورة القادة هناك وصولا لشيطنتهم وافقادهم ثقة الناس بهم وعندها ،وكما يقول، لا يعرف الناس ماذا يصدقون وماذا يكذبون! وهكذا يمكن السيطرة على البلد،وهذا ينطبق بحذافيره على ما يجري في الحزب خصوصا منذ عام ونصف العام. يتبع.