بقلم: صلاح المختار
كان ذلك في عام 1962 عندما ابلغني مسؤولي الحزبي الشهيد خالد ناصر بان علينا التعبئة العامة للجماهير لاستقبال المناضل احمد بن بلة ورفاقه قادة الثورة الجزائرية والذين اعلن خبر زيارتهم للعراق للحصول على الدعم للثورة ، وكان العراق بكل شعبه متلهف لاي خبر عن الثورة الجزائرية وحماسه لانظير له ،لذلك كان ما اخبرني به مسؤولي خبرا رائعا فجر في داخلي فرحا طفوليا لاحدود له، فقد كنت في العام الذي سبقه قد بعثنا لجبهة التحرير الوطني الجزائرية ببرقية تطوع انا واثنين من رفاقي الذين كنت مسؤولهم الحزبي واتذكر منهما الرفيق وليد مروح العاني اما الثاني فلا اتذكر اسمه الان ، ونشرت في جريدة (بغداد) التي كان يصدرها المرحوم خضر العباسي وكانت قومية واسبوعية وتصدر مساء، وكانت الجماهير تنتظرها بفارغ الصبر ونحن وقتها في ذروة الصراع مع نظام عبدالكريم قاسم الشعوبي وداعميه ، وما ان ابلغت بالاعداد للتظاهرة لاستقبال الوفد الجزائري حتى اخذنا نمر على الاصدقاء والاقارب فردا فردا وندعوهم للمشاركة في التظاهرة القومية ، وكان الوفد يضم كل من احمد بن بلة وكان قد خرج لتوه من السجن في فرنسا ،ورفاقه حسين اية احمد ورابح بيطاط ومحمد بوضياف ومحمد خيضر.
كانت الجماهير تواقة لرؤية ابطال ثورة الجزائر الباسلة لذلك نجحنا نجاحا منقطع النظير في حشد الاف الناس في التظاهرة لدرجة ان الشارع المؤدي لمطار بغداد القديم امتلأ وغطت حتى رصيفيه، وكان السير صعبا جدا فيه وكانت السيارات التي تمر تجد صعوبة في السير اسرع من المتظاهرين وكانت اصوات ابواقها تختلط مع الهتافات العالية، وكان اجمل ما في مشهد التظاهرة البانورامي المدهش هو سيادة هتاف وشعار على ماعداه وهو الذي كانت الاف الحناجر تهتف به بصوت واحد يهز اركان الشارع، وكانت النسوة يشاركن ولو بأعداد اقل من الرجال ،ولكن هلاهلهن كانت تصدح بصوت يحرك مشاعر قبلية تسبق زمننا عندما كان صوت الهلاهل قبل قرون والفيات دعوة فرح او تحقيق للنصر، كنا كأننا في عرس حقيقي لشاب وحيد لاهله وتزوج! كانت اللافتات تعلو فوق رؤوسنا بالعشرات وعليها نفس الهتاف (يابن بلة اهلا بيك حزب البعث يحيك). وكان اختيار القيادة القطرية للحزب علنية رفع اسم الحزب والترحيب بالوفد الجزائري له دلالات مثيرة للنفوس حماسة واصرارا على المزيد من التوسع والاشهار البعثيين، وكان الحماس يشق عنان السماء والالاف تحاول رؤية بن بلة الشخصية الثائرة التي احتلت مخيلتنا عندما كنا نسمع اخبار اعتقاله من قبل الاستعمار الفرنسي ، وكنا نتابع اخبار الثورة الجزائرية من العهد الملكي بشغف ولهذا كنا نتدافع لرؤية وجه الجزائر العظيمة الثائرة.
واذكر جيدا انني كنت اهتف والوفد الجزائري يخرج من المطار برفقة الديكتاتور عبدالكريم قاسم ورأيت وجه بن بلة الذي كان تائها في بحر دهشة طاغية متلازمة مع ابتسامة فرح حقيقي تتسلق وجهه اللطيف القسمات وهو يرى الاف العراقيين يهتفون باسمه مرحبين به وبرفاقه ويكادون يرفعون السيارة التي اقلته مع قاسم، اما الاخير فقد كان وجهه مسرحا لحركات غريبة فتارة يعبّس واسم البعث يخترق اذنيه بقوة ويسود على كل الاصوات ،فأبطال البعث حاولوا اغتياله في عام 1959 ،وبدون تدرج في تغيير تعابير وجهه المفعم بالقلق نرى فجأة تعابير وجهه تتغير فتظهر علائم الغضب ثم نرى وفجأة ايضا ابتسامة مهزوزة تتراقص فوق شفتيه النحيفتين وبلا توقع،اما عينيه فكانتا تتراكضان يمينا ويسارا بدون اي سيطرة عليهما لتتابعان الجموع المحيطة بسيارته!
وبعد ان مرت سيارة قاسم اقتربت سيارة لمسؤول عراقي ببطء شديد فنظرت الى داخلها وشاهدت الحاكم العسكري العام الزعيم ( العميد) احمد صالح العبدي الذي كان مصدوما من ضخامة الحشد ولعل اكثر ما اقلقه هو الطابع البعثي المتحدي للتظاهرة ، وكنت مازالت اهتف:(يابن بلة اهلا بيك حزب البعث يحيك) فنظر لي بغضب وقال (انجب)! وانجب باللهجة العراقية تعني اخرس بالفصحى ، وتلفظ الجيم مثل الCH في اللغة الانكليزية ، فما كان مني وبدون اي تفكير الا تلفظت بعبارة (انت انجب )، فتفجر غضبه وقال وهو محكوم بكرشه الكبير المهتز:( اقبضوا عليه) ، وكان الانضباط العسكري – الشرطة العسكرية- منتشرا بكثرة لكن اعداده كانت نقطة في بحر الجماهير الفرحة بضيوفها من حبيبتنا الجزائر، وكنت شابا نحيفا وقوي الجسد فابتعدت قبل ان ينزل مرافقه ويطلب من الانضباط العسكري القاء القبض علي، واصلت الهتاف مع الالاف والذين كانوا اسرى مشاعر انطلاق عارم ،غاطسين في عرقهم من فرط حماسهم .
تلك التظاهرة كانت الخطوة الثالثة في البناء الجماهيري والمعنوي للبعث في العراق فالاف المستقلين الذين دمجناهم بنشاطنا كانت بيئة صالحة للكسب الحزبي الواسع النطاق فمن هذه الحشود كسبنا المئات الى صفوف الحزب بسهولة، وكان البعثيون فرسان المبادرة القادرون على اداء اعمال تنظيمية مبدعة عجزت بقية مكونات التيار القومي العربي عن امتلاكها مثل( حزب الاستقلال او الحزب العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والرابطة القومية …الخ)، اما الخطوة السابقة في الاعداد للصعود العظيم للبعث فكان اضراب البانزين في نفس العام وفيه حشدنا الاف العمال والفقراء والطلاب في اضراب عزلنا فيه قاسم وداعميه بقدرتنا على تجميد الحركة في بغداد بصورة ارهبت النظام الديكتاتوري ونبهت الجماهير الى التفوق الواضح للبعث جماهيريا ونفسيا، وكانت تلك رسالة قوية للجماهير تقول :بان هناك تنظيم عظيم فعال قادر على قيادتها بكفاءة عالية ضد الديكتاتورية القاسمية، مثلما كانت رسالة لقاسم مثيرة لاعمق القلق في نفسه الشكاكة اصلا تؤكد بان القوة الضاربة والاساسية في العراق هي البعث الاخذ في التوسع والترسخ ، وكلا الخطوتين كانتا انجازا عظيما وسع نطاق جماهير الحزب وتنظيماته وواجهاته المهنية ،واضاف قوة معنوية جبارة للبعثيين مما ادى للنجاح الباهر للخطوة الثالثة وهي اسقاط نظام قاسم بثورة الثامن من شباط عام 1963 (المصادف 14 رمضان) بعملية مشتركة عسكرية ومدنية شاركنا فيها مدنيين وعسكريين فكانت تلك صدمة لقاسم الذي اعتقد بان من سيحاول اسقاطه سيعتمد على انقلاب عسكري لكنه صدم بنزول الاف البعثيين المدنيين الى شوارع بغداد والسيطرة شبه التامة على العاصمة قبل نزول الجيش، وكنت احدهم مكلفا بالسيطرة مع رفاقي الاخرين على المدخل الغربي لجسر الشهداء وهو الطريق الاقصر لوزارة الدفاع حيث يتحصن قاسم، وكنا مسلحين بأسلحة خفيفة وقديمة وسيطرنا على مراكز الشرطة والساحات المهمة لعبور الجيش قبل نزول الدبابات مثلما سيطر رفاق لنا على بيوت كبار قادة النظام وحيدوهم بفعالية عالية وهو ما حرم النظام من ابرز قادته العسكريين خصوصا في القوة الجوية، فمهدنا الطريق للدبابات كي تعبر نحو وزارة الدفاع، بقيادة الرفيق العقيد الركن عبدالكريم مصطفى نصرت قائد الدبابات الثائرة.
وتلك كانت مأثرة عظيمة سجلتها قيادة قطر العراق واثبتت فيها ان قطر العراق هو خزانة الخبرة والبطولة والابداع الذي لايضاهى لدرجة ان القيادة القومية كانت تصاب بالدهشة اعجابا بخطوات قيادة الحزب في العراق وفخرا بأمتلاكها كافة شروط القيادة الذاتية والتي تميزها عن كافة فروع الحزب في الوطن العربي بالتفوق التام في وسائل النضال والقدرة على الابداع في تطوير العمل الحزبي وتوسيعه، وكسب الالاف، فتفوقنا حتى على تنظيم سوريا للحزب والذي كان اقدم منا زمنيا .ان نجاحات قيادة قطر العراق في تلك الفترة من نضال الحزب كان مرده الى تميزها بالشجاعة العاتية وبالثقافة الثورية واقامة تنظيم حديدي لايوجد مثله في اي قطر عربي،وقدرتها على التخطيط الصحيح رغم ان اعضاءها كلهم كانوا في عشرينات وبداية الثلاثينات من اعمارهم ويفتقرون للتجارب في الحكم!القيادة القطرية كانت حادة الذكاء في معرفة اللحظات الثورية المناسبة لتوجيه الضربات او للاقدام على خطوة تعزز دور الحزب وتقوي قواعده الشعبية ولم تنتظر يوما توجيها من القيادة القومية،وهي اعلى مؤسسة قيادية فيه والتي كانت تحصد النتيجة وهي المفاخر النضالية، ولكنها لم تكن تتدخل في عمل قيادة القطر ولا في اتخاذ القرارات المصيرية لانها تعرف بحكم خبرتها ان تدخلها يشكل غطاء ثقيلا يشلها وقد يصبح خطرا قاتلا في مراحل الحسم الستراتيجي.
ومن اعظم مفاخر القائد المؤسس احمد ميشيل عفلق وهو الرجل الاكثر امتلاكا لشرعية التدخل في عمل الحزب هو انه كان لا يتدخل في صلاحيات قيادة القطر المعروفة ويتركها تناضل وتبدع متجنبا وضع غطاء ثقيل ومحبط يخنقها ويعطل دورها، واذا اضطر للتدخل فهو للنصح وتقريب وجهات النظر وليس لفرض قرارات فوقية وما حصل في ازمة عام 1963 بعد انشقاق الحزب في العراق يؤكد ذلك فقد اكتفى بالنصح وطرح مقترحات ،وهذا احد اهم اسرار تفوق البعث وتقدمه وانجازاته التاريخية. وبتحقيق قيادة قطر العراق للخطوات الثلاثة المتتابعة مهدت لصعود الحزب مرة ثانية الى الحكم في عام 1968.
واذكر انني التقيت ببن بلة بعد تلك التظاهرة ب44 عاما في الجزائر في عام 2006 عندما زرتها لنقل رسالة المقاومة العراقية والبعث للقيادة الجزائرية التي كلفني بها الرفيق عزة ابراهيم امين سر القطر وقائد المقاومة الوطنية رحمه الله ، ولكن ورغم مرور اكثر من اسبوع لم احصل على موعد مع اي مسؤول جزائري وكنت ضيفا على دكتور احمد شوتري عضو القيادة القومية للحزب، وكان عونا فعالا لي في الاتصالات كلها، وبعد ان اصبح الزمن ثقيلا علينا قال لي بان بامكاننا تحديد موعد عن طريق الدكتور ابراهيم ماخوس رحمه الله وزير خارجية سوريا قبل انقلاب حافظ اسد وكان يتمتع بالمواطنة الجزائرية لانه كان قد تطوع في صفوف الثورة الجزائرية طبيبا وعمل معها وبعد ان اقصاه حافظ اسد احتصنته الجزائر ومنحته جنسيتها وكانت له علاقات ممتازة ، فزرناه انا والدكتور شوتري في بيته وكان فرحا باستقبال عراقي يقدم له شرحا مفصلا عن المقاومة وعملياتها وما تحتاج اليه من دعم عربي. وبعد ان عبر عن سعادته بما سمعه مني وعدني بترتيب لقاء لي مع مسؤول جزائري كبير،وبالفعل تم تحديد لقاء لي مع من كان يوصف وقتها ب(صانع الملوك) وهو الفريق محمد مدين المعروف بالجنرال توفيق مدير المخابرات الجزائرية والتقيت به في معسكر للجيش الجزائري وسط اجراءات امنية مشددة ، وكان ودودا جدا وعانقني وكان متحمسا للتعاون مع المقاومة العراقية بعد ان قدمت عرضا شاملا له عنها وما يجري في العراق فأكد دعم الجزائر لمقاومة الشعب العراقي ولكنه طلب مني ان ابلغ قيادة الحزب والمقاومة الوطنية بان الجزائر تحتاج لاستقبال الحزب والمقاومة الوطنية للمتطوعين الجزائريين ومنع التيارات الاسلاموية من استقطابهم وكانت القاعدة تعمل بنشاط وقتها وترتب تجنيد المتطوعين لذلك كانت الحزائر تخشى من تجنيدهم في تنظيمات اسلاموية معادية للاستقرار فيها بعد عودتهم، وابلغني تحيات الرئيس بوتفليقة لقيادة الحزب والمقاومة ،وقمت بنقل الرسالة للقيادة في العراق.
اما لقائي ببن بلة فقد تم والتقيناه في بيته انا ودكتور شوتري وكان رائعا وودودا جدا وكانت ابتسامته تنساب بهدوء كموسيقى ربيعية هادئة تجدد الحياة ،وقدمت له شرحا مفصلا عن المقاومة العراقية وما يجري في العراق وشكرته على تسهيل لقاءاتنا، وذكرت له مشاركتي في تظاهرة استقباله في العراق لاول مرة وكان فرحا بسماع حديث ذكّره بطريقة استقباله في العراق لاول مرة. رحم الله احمد بن بلة ورفاقه شهداء الثورة الجزائرية .