الجمعة الماضية بدت بالنسبة لتركيا مثيرة واستثنائية ، إذ أن وقائعها ضجت بمصادفات تراجيدية لافتة ومخيفة تاركة وراءها غيوما وسحبا ، ربما تمهد بما لا يحمد عقباه ، بدأت فى صباح هذا اليوم ، بعطب، ليس معروفا سببه ، أصاب « مروحية « إنقاذ لم تجد من ينقذها ، فجاء سقوطها مزلزلا سكون ضاحية
« بيوك تشكمجه « بالشطر الأوروبى من مدينة إسطنبول، ومن لطف الأقدار أنها تحطمت على طريق عام ، الحركة فيه ــ وعلى غير المعتاد نهاية الأسبوع ــ خفت وتيرتها تحت وطأة الضباب الكثيف ، إلا أن المفارقة كانت فى مصرع خمسة أفراد ، معظمهم من المواطنين الروس . حدث هذا فى وقت كان الرئيس التركى الذى سبق وذاق مرارة اتهام نظامه بإسقاط المقاتلة ساخوى ومقتل قائدها ــ يبدأ زيارته لموسكو . يالها اذن من أجواء « نحس وتشاؤم « ، فدم السفير الروسى أندريه كارلوف الذى أغتيل فى أنقرة على يد شرطى إسلامى المتشدد ، لم يجف بعد ، وتداعياته لا شك غلفت بشكل ما مباحثات الرجل مع ورثة القياصرة، وهو الذى كان يتوق صادقا ، لإزالة كل الخلافات ورفع باقى القيود عن سائقى الشاحنات.
وكذا رجال أعماله خصوصا فى قطاع البناء والتشييد، ولكن هيهات فثمة زمن لابد له أن يمر إلى أن تعود العلاقات إلى سابق عهدها ، وهذا مرهون بتجاوز الملفات العالقة وفى مقدمتها أن يتجاوز الأناضول خلافاته مع جيرانه .
وبالتوازى وخلال استقبال الكرملين « أحد داعمى الإرهاب « وفق منطق رئيس الدبلوماسية السورية وليد المعلم « ، كانت دمشق تطالب الأمم المتحدة ومجلس الأمن بإلزام جارتها التركية سحب قواتها من أراضيها، ويبدو أنها لم تكن تعلم أن المنظمة الأممية ستصدر لاحقا تقريرا مضمونه حتما سيثلج صدرها كونه يندد بممارسات من صارت عدوتها ، ويدينها بشدة وبصورة واضحة وحاسمة لانتهاكاتها بالجملة لما وصف بجرائم ضد الانسانية فى مدن جنوب شرق الأناضول.
فى ذات تلك الجمعة الشهيرة وقبل الصلاة بقليل ، هبت رياح عاصفة قادمة من بلد طواحين الهوا، معلنة رفضها مشاركة وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو الذى كان ضمن وفد الرئيس فى زيارته لروسيا ، وبالمناسبة ما أعلنته إمستردام لم يكن جديدا إذا سبق وابلغت رفضها عزم تشاويش أوغلو زيارتها ، لكن الأخير اصر وليته اكتفى فقط بذلك بل استبق وصوله صباح السبت بتصريحات هدد فيها هولندا بعقوبات قاسية فما كان من الأخيرة الا أن توجه له صفعة مهينة بمنع طائرته من دخول أجوائها ليعود هابطا فى احد المطارات الفرنسية.
إنه حقا يوما عصيب مر بتركيا ، لكنه سينقلب بعد قليل وسيستغل رئيسها هذا المنعطف مثلما استثمر المحاولة الانقلابية الفاشلة لدعم حكمه بشن حملة إعلامية شعواء ندد فيها بضراوة بالعنصريين الفاشيين النازيين ، لتتحول وسائل اعلامه المرئية والمقرءوة بين عشية وضحاها إلى ذات الحالة التى لبستها ليلة الجمعة منتصف يوليو ، مع فارق جوهرى وهو ارتداؤها ثوب الغيرة الدينية والحمية على الاسلام وإنقاذه من براثن أعدائه البرابرة.
واستفادة من دروس ثورات الربيع العربى حرصت شبكات الأخبار الفضائية على أن تبث على مدار الساعة لقطات مقطوعة بطبيعة الحال من سياقها ، فيها تسليط على رد الفعل وتجاهل الفعل نفسه، كى تظهر الشرطة الهولندية بصورة متوحشة سادية باستخدامها الكلاب مع الامتناع عن إظهار خراطيم المياه لتفريق مئات المحتجين، لسبب بسيط وهو أن السلطات التركية تستخدمها بشكل يكاد يكون يوميا.
ومع حالة الفوران العاتية وكأنه بركان أطلق من جوفه فجأة شلالات من الحمم ، وتنفيذا لنصيحة أسدتها جوقة العزف على النعرات القومية ، دعت بضرورة الدق بقوة لاثارة هلع ورعب الأوروبيين ، بتهديدهم بزحف آلاف الأشخاص من جنسيات مختلفة على اراضيهم ، هنا يقينا سيعودون إلى صوابهم .
هكذا أوعزوا لصانع القرار الذى وجه تعليماته لوزارة خارجيته وبدورها اصدرت بيانا موجها للقارة العجوز ، محذرا إياها أن الاتفاقات المبرمة معها بشأن الهجرة واللاجئين فى خطر محدق، ما لم يتم فى التو واللحظة رفع تأشيرة شينجن الشهيرة من أمام مواطنيها التى كان يفترض لها نهاية يونيو العام 2016 لكنها تعثرت لان أنقرة لم تغير قوانيها لمكافحة الإرهاب التى تعتبرها بروكسل فضاضة تستهدف فقط معارضو اردوغان. ولكن لم تمض سوى عشرين ساعة فقط إلا وأتى الرد الحاسم فى قيام الاتحاد الأوروبى بتجميد المساعدات المالية المقدمة للحكومة التركية، بعد فشلها فى تحقيق تقدم بالملفات المطلوبة ضمن مفاوضات حصولها على العضوية الكاملة وأوضح مفوض سياسة الجوار والتوسع يوهانس هان، أن هذه المساعدات ترتبط بمعايير وشروط حازمة يتم مراقبتها منوها إلى أن الاتحاد الأوروبى قدم مساعدات مالية لتركيا بقيمة 167 مليونا و300 ألف يورو حتى الآن، من أصل مساعدات كانت مقررة بنحو 4 مليارات و450 مليون يورو فى الفترة بين عامى 2016-2020 ومع الأسف تركيا لا تحرز تقدما باتجاه الاتحاد الأوروبى. وإنما تبتعد عن أوروبا. ووصف ما يقال بشأن تعليق مفاوضات الانضمام بأنها «مصطنعة»، موضحا أنها أصلا توقفت بشكل فعلى نتيجة عدم فتح أى ملفات جديدة. ولم ينس شأنه شأن أقرانه الاوروبيين أن يوجه انتقادا لأردوغان قائلا: «لا يمكن قبول وصف تركيا لبعض الدول الأوروبية بالنازية والفاشية» .
وزير شئون الاتحاد الأوروبى عمر تشليك، قال إن بلاده «ستفرض عقوبات بالتأكيد» ، لم يفصح عن تفاصيلها وماهيتها غير أن مراقبين قللوا من أهميتها واعتبروها تهديدات لن تجد لها طريقا نحو التنفيذ ، فالخسارة ستكون أفدح لتركيا فالهولنديون لن يكونوا وحدهم فلديهم شركاؤهم الذين سيردون معهم ويكفى أنه قبل الأزمة يعانى الأناضول جملة من التراجعات شملت التجارة والاستثمار الاجنبى ومعدلات السياحة وثمة من يقول ان عام 2017 أغلق فعليا أمام السياحة الاوروبية. إنها ايام وستصحو تركيا على حقائق ( سترفضها نخبتها المسيطرة ) لن تكون فى صالحها فالحاصل مع هولندا وقبلها المانيا وحد أوروبا دون استثناء ضدها ، فرصاصة الرحمة خرجت توا لتنهى حلم تركيا بالتغلغل فى نسيج الحياة الاوروبية بكل ما تحمله من قيم ومفاهيم الديمقراطية الفعلية لقد اسدل الستار ولن يرفع طالما أردوغان فى السلطة.