فلاش باك : 1964
بقلم: صلاح المختار
اعتقلت للمرة الثانية في حياتي في عام 1964 في الامن العامة وبقيت عدة ايام بلا تحقيق وكانت المعاملة سيئة جدا واصابني الاسهال بسبب الاكل الملوث وغير الصحي الذي قدم لنا وهو عبارة عن مرقة شجر او باذنجان او طماطة بدون لحم ورغيف خبز (صمونة) فقط ! بعكس اعتقالي الاول في عام 1961 عندما تبرع المحقق معي في نفس الامن العامة المرحوم عبدالقادر الجنابي بغداء فاخر لي وكان طبق كباب رائع مازلت احس بطعمه رغم مرور عقود طويلة! اما في عام 1964 فلا طعام مناسب ولا مكان يصلح السكن فيه ولو لساعات! كان هناك مرحاض شرقي واحد فقط في مكان الاعتقال غارق بالمياه القذرة ولا نستطيع الجلوس عليه الا وقد غمست اقدامنا بالقاذورات! ورغم أننا اخبرنا الحراس بذلك الا ان الوضع لم يتغير وكأن الامر كان مقصود! كانت الغرفة التي اعتقلنا فيها صغيرة وتضم اكثر من عشرين معتقلا بعثيا رغم انها لاتتسع لاكثر من خمسة، ولهذا كنا ننام في الليل بوجبات بعضنا يبقى جالسا لعدة ساعات والبعض الاخر ينام ثم ينهض النائم وينام الجالس، وكان الشخير العالي يوقظنا حالما نغفي ولو للحظات،بينما رائحة المكان النتنة تخنقنا وتترك طعما غريبا في افواهنا،وهكذا نبقى نتقلب بين نوم طارئ ويقظة ناعسة حتى الصباح! لم انم براحة ابدا طوال فترة الاعتقال هذه.
وفي اليوم الرابع فقط نودي علي وخرجت مع شرطي امن ولا اعرف الى اين ولكنه ادخلني غرفة وضعت قطعة في مدخلها كتب عليها :(معاون مدير الامن العام) ، وكان ضابط الشرطة ابراهيم اسماعيل زوج خالتي رحمهما الله هو معاون مدير الامن العام وقتها،والذي نهض وقال لي بسرعة :-اسمع صلاح سأخذك لمدير الامن العام الذي تحدثت معه الان ورجوته اطلاق سراحك فطلب رؤيتك فوافق على ما يطلبه منك. وقبل ان ارد سار مسرعا وتبعته ودخلنا غرفة مدير الامن العام انور ثامر رحمه الله وكان ابن محلتي سوق حمادة في الكرخ وقريب عبدالسلام عارف رئيس الجمهورية وهو الاخر كان ابن محلتي،صافحني وكان ودودا لانه صديق اعمامي واخوالي ،قال لي وانا واقف : امرني الرئيس عارف باطلاق سراحك الان بشرط ان تقدم براءة من الحزب .فماذا تقول ؟ انا احترم الجيرة والصداقة والاخوة مع عائلتك ولكن الواجب شيء والعلاقات الخاصة شيء اخر .
كنت صامتا وافكر بسرعة لانني عرفت مسبقا انه سيطلب مني البراءة من الحزب لان من اعتقلوا اخبروني بالامر، وكان علي ان اكون دقيقا في ردي ، أجلت ببصري بين الوجهين امامي ثم نظرت لصورة عبدالسلام عارف فوق رأس مدير الامن العام ولا ادري لم انتابتني في تلك اللحظة الرغبة في الضحك لكنني تمالكت نفسي وكتمت الضحكة؟! وسمعته يقول بهجة سريعة :-طلبت منك لاطلاق سراحك ان تقدم البراءة من الحزب.اجبته وانا انظر في عينيه بتواصل :-استاذ انور كيف تطلب مني البراءة من حزب لست عضوا فيه؟ الا ترى ان هذا لايجوز ؟ بصوت متهدج صرخ :- ولماذا لايجوز ؟ بالعكس فاذا لم تكن بعثيا فما المانع من تقديم براءة من الحزب؟ وبهدوء تام قلت له :-لايجوز اخلاقيا ان اتبرأ من حزب لست عضوا فيه! نهض من كرسيه وقال لي وهو يقف بطوله الفارع واناقته ووسامته الواضحة ويرد غاضبا :-صلاح لست هنا لتعلمني الاخلاق! انا اريد مساعدتك اكراما لعلاقاتنا العائلية وانت تقدم لي درسا في الاخلاق ؟!
-عفوا استاذ انور انا لا اقدم درسا في الاخلاق بل اردت فقط توضيح انه ليس من حقي ان أتبرأ من حزب لست عضوا فيه خصوصا وان ذلك قانونيا سوف يورطني في مشكلة انني اعترف ضمنا بانني حزبي .هنا رأيت الغضب يندلق متدفقا من وجهه ،وقبل ان ينطق بادر زوج خالتي ابراهيم وقال :-صلاح احسم الموضوع واستغل الفرصة وقدم البراءة وبلا جدل لاينفع! عقب انور ثامر بعد ان استعاد السيطرة على نفسه:-شوف صلاح لن تخرج الا بعد تقديم البراءة، ارجع الان لغرفة الاعتقال وفكر للغد فاذا لم توافق فلن تخرج من الاعتقال.قلت ووجهي مشتعل بغضب اجتاحني وكنت اصارع لضبط اعصابي :-كما تريد استاذ انور !سألني وهو منفعل جدا:-هل افهم من ردك انك لاتريد تقديم براءة؟ قلت له بحزم :كلا لن اقدم براءة من حزب لست عضوا فيه.
قال لي: انت لست افضل من قادة في الحزب قدموا براءة منه ( ذكر اسم معين) فلم تصر على الرفض؟ بهدوء اعاد اشعال غضبه قلت: انت حددت سبب رفضي تقديم البراءة عندما قلت ان من قدمها قادة في الحزب ،اما انا فلست عضوا في الحزب فكيف اتبرأ منه وانا لست عضوا فيه ؟ صرخ :اخرج !
وبعد اكثر من عشرة ايام من الاعتقال في مكان لايصلح حتى لعيش الحيوانات فيه اطلق سراحي دون تقديم البراءة .وكان من توسط لاطلاق سراحي هو المرحوم ابراهيم اسماعيل معاون مدير الامن العام اولا، ثم قام الدكتور احمد عبدالستار الجواري زوج ابنة عمي توفيق المختار رحمهما الله بالرجاء من الرئيس عارف اطلاق سراحي، وكان عارف مازال يحاول استمالة وزراء وقادة في نظام البعث الذي اسقطه، في محاولة واضحة لشق الحزب ودعم تيار يلتحق بالنظام العارفي! لكن تلك المحاولة فشلت لان البعث كان وسيبقى اقوى من هذا النوع من محاولات السطو عليه او شقه.