أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / ومضات الذاكرة : حفلات التعذيب 10

ومضات الذاكرة : حفلات التعذيب 10

  فلاش باك : 1965

 

بقلم: صلاح المختار

 

في عام 1965 وفي الرابع من ايلول شنت السلطات العارفية حملة اعتقالات واسعة النطاق للبعثيين 1964،اعتقلت ظهرا ولكن هذه المرة لم يدخلوني في غرفة اعتقال مع غيري بل قال ضابط الامن : خذوه الى الانفرادي، وكان مدير الامن العام قد تغير ولم يعد انور ثامر ابن محلتي هو المدير العام بل عين بدله ضابط جيش ناصري اسمه رشيد محسن وكان يكره البعثيين جدا وامره عبدالسلام عارف ب(تدمير حزب البعث) وتعهد بذلك لرئيسه.اخذوني الى ما يشبه الشقة الصغيرة وفيها غرفتين فقط واحدة مقابل الاخرى وباب كل منهما عبارة عن شباك حديدي وبنيت خصيصا للاعتقال الفردي. ادخلت غرفة صغيرة لاتكاد تكفي الا لاثنين وهناك شاهدت شخصا يرتدي بيجاما نظيفة ولم اعرف من هو، سلمت بعد اغلاق الباب خلفي بالمفتاح، نهض ذلك الشخص وكان اكبر سنا مني ،وكنت انذاك في الحادية والعشرين من عمري،وقدم لي كأسا فيه لبن (روبة) وقال لي :اجلس . وانا اجلس شكرته وكنت حذرا لانني لا اعرف من هو ولم وضعت معه؟ وكان يبتسم بود وادب جم ، وقال لي:- انا المقدم سليم  الفخري .فوجئت بالاسم لانني سمعت به فقد كان مديرا عاما للاذاعة والتلفزيون في زمن قاسم وهو شيوعي من الموصل،صافحته وقلت له : تشرفنا استاذ سليم .صمت وكنت قلقا لانني لا اعرف ما يجري فاصوات الصراخ اسمعها وانا في غرفة الانفرادي تأتي من مكان اخر يجري فيه التعذيب للمعتقلين ، لاحظ قلقي وهمس بصوت واطئ:

-اسمع جيدا لم تشملك اي اعترافات حتى الان لان وضعك معنا يعني انك غير مشمول بما قدم من الاعترافات ، فلا يخدعوك اذا قالوا ان عليك اعترافات .لم اكن واثقا من الاستاذ سليم الفخري فهو شيوعي وانا بعثي وبين حزبينا  مشاكل كثيرة معقدة ، همست :-ليس لدي ما اعترف به .رد وهو يبتسم : -انا فقط اردت ان تعرف بانه لاتوجد عليك اعترافات .تمددت لساعة وفجأة سمعت مناديا بأسمي،اخذني خارج الغرفة الى ساحة وفيها غرفة ادخلت اليها وهناك وجدت شخصا ضخم الجثة ابتسم في وجهي وقال :-اهلا بصلاح المختار ! كيف حالك؟ (شلونك)،اجبته بحذر وانا افسر ابتسامته على انها ابتسامة تشف :الحمد لله شكرا جزيلا .اختفت ابتسامته بسرعة كما ظهرت بسرعة ، لاحظت خلفه شخص اخر وسيم الوجه يبدو هادئا، خرج صوت ضخم الجثة حازما قويا وقال لي:-انا عز الدين لافي ، هل سمعت بي؟ كنت قد سمعت باسمه في الايام القليلة الماضية وكانت سمعته انه جلاد قاس جدا ولا يتورع عن ممارسة كافة اشكال التعذيب ، فقلت له:-مع احترامي لك لا اعرف حضرتك.عادت الابتسامة المتشفية تتسلق وجهه وقال:-ستعرف جيدا من حضرتي بعد قليل،انصحك بالاعتراف لان لدي عليك اعترافات كثيرة وانك قيادي في حزب البعث، والطريقة الوحيدة لنجاتك هي ان تعترف وعندها سوف نتسامح معك .عقبت بصوت خافت:- وعن اي شيء اعترف ؟ انا لست حزبيا .

-اسمع صلاح في المرة الماضية اعتقلت ولم تعذب لان انور ثامر كان مديرا للامن اما الان فنحن هنا وما ورد في محضر التحقيق السابق معك كان تساهلا شديدا معك اما انا فسوف انتزع الاعترافات من عينيك.فلا تجبرني على ذلك واعترف بلا مشاكل .بقيت صامتا وانا لا انظر اليه بل انظر للشخص الاخر الذي يقف معه وشبح ابتسامة يتراقص على وجهه، وصل صوت عز الدين لافي كانه يأتيني من حفرة بئر مهدم :-هل تسمع هذه الاصوات التي تتألم ؟ انها اصوات جماعتك البعثيين وكلهم اعترفوا ومنها اعترافات عليك فتكلم بلا ضغط الان وقبل فوات الاوان .كنت ارى الحقد يقدح شرارا من عينيه وكان جادا في وعده ، قلت:-استاذ انا لست حزبيا فعلى من اعترف اذا لم اكن حزبيا؟ نظر الى وقد اجتاحه الغضب الجنوني ،وقال :قف خلف الباب واصمت واياك ان تخرج اي صوت الا عندما اطلب منك ذلك. وقفت خلف الباب، وقال: اجلبوا سامي . ولم اعرف عن اي سامي يتحدث، ، سأله لافي:

-سامي من هو مسؤولك الحزبي؟ وعرفت سامي فهو بصير  كنت مسؤوله الحزبي وكان يدرس الادب العربي في القاهرة، وكنت اقرأ له دورسه وبنفس الوقت ابلغه بتعليمات الحزب، كان سامي مضطربا يتأتأ،فتأكدت انه تعرض للتعذيب، رد سامي : مسؤولي صلاح. فسأله:أي صلاح؟ رد سامي بنفس التأتأة : صلاح المختار.ولم انتظر طلب عز الدين لافي ان اخرج من وراء الباب فخرجت وقلت لسامي: هل كنت مسؤولك ام كنت اساعدك في دراستك بالقراءة لك ؟ صرخ عز الدين لافي بغضب:قلت لك لاتخرج الا بعد ان اطلب منك ذلك! انهال علي ضربا بعصا غليظة كانت قربه، نادى على افراد امن فدخلوا بسرعة وانهالوا علي ضربا، وواصل كلامه الغاضب : هل تعرف ماذا ينتظرك؟ قلت له: استاذ اردت ان اوضح لك انني لم اكن على صلة حزبية به بل كنت اعاونه في دروسه ، وفي هذه اللحظة نطق سامي بصوت اجش واخذ يبكي بحرقة ويقول : استاذ والله العظيم كان يساعدني في دروسي وانا لست حزبيا ! امر عز الدين لافي بضرب سامي وهو يشتمه:كلب ابن الكلب الم تعترف ان صلاح مسؤولك الحزبي؟ تعالى صراخ سامي وهو يبكي : والله والله قلت ذلك تحت التعذيب!

عندها قال عز الدين لافي:خذوا سامي لغرفته اما صلاح فعلقوه. كانت ضربات شرطة الامن تتوالي علي بالعصي والايادي دون رحمة .اخرجت من الغرفة الى باحة صغيرة تنهمر عليها اشعة الشمس، وضع احدهم الكلبجة بيدي ورفع ذراعي بقوة وعلقها بأنبوب حديدي في الدرج واصبحت واقفا على اطراف اصابعي،  وقال لي وابتسامة لزجة تتسلق ملامحه الغبراء: تمتع باشعة الشمس. تركني هناك، في البداية كنت لا اشعر بألم وكان ما يؤلمني سماع اصوات من يعذبون في غرف حولي تختلط باصوت المحققين، ولكن بعد حوالي خمس دقائق بدأ الالم يدب من رسغي الى ذراعي واخذت اعاني من احتقان الدم بسبب تركز ثقلي كله على يدي وانا معلق بالدرج، كان الما لايطاق! وكنت اتجنب اصدار اي صوت واكتم المي المتزايد ، وكان عرقي ينز ويتساقط فوق قميصي ، ولم اعد ارى الشمس ولا اي شيء لان مساحة النظر صارت محصورة في الحملقة المستمرة في رسغ يدي التي اخذت تتخدر وافقد الاحساس بها وهو احساس غريب يظهر موجعا لكنه يختفي ثم يعود ! بعد زمن لا اعرف كم عدد دقائقه جف ريقي وشعرت بعطش شديد وتمنيت لو ارتشف قطرة ماء واموت بعدها .

لم اعرف كم مر من الوقت ولكنه كان ثقيلا يجثم فوق صدري ويخنق انفاسي وفجأة ساد الهدوء في الغرف المجاورة وتوقف صوت الصراخ من حولي. وفي تلك اللحظة جاء ذلك الشخص الوسيم والذي كان مع عز الدين لافي ، وقف الى جانبي واعتقدت انه يريد ضربي ، نظر لي وفي عينيه لمسات الم، وسألني :

-هل انت عطشان؟ قلت له نعم. ذهب وعاد بعد اقل من دقيقة وفي يده كأس ماء وضعه في فمي فلم استطع الشرب لانني معلق وجسمي خرج عن سيطرتي تقريبا، فقال لفرد امن : فك الكلبجة عن يدية ليشرب الماء، ما ان فكت يدي حتى تكومت على الارض ونسيت الحاجة الشديدة للماء ، سألني : هل انت بخير ؟ قلت له: من فضلك دعني ارتاح قليلا . قال ارتاح ولكن هل انت تعطشان؟ هززت رأسي لاشير بنعم لانني عجزت عن الكلام، وبعد دقائق شعرت بالدم يعود الى ذراعي متدفقا بقوة في شراييني ، مددت يدي بلهفة وشربت الماء بسرعة لم افعلها طوال حياتي. وقال للشرطي: اذهب انت انا ساعيد الكلبجة . بقينا وحدنا ، قال  لي : انا الملازم جودت العمري وساساعدك ولو قليلا ، سابقى معك اطول وقت ممكن ولكنني بعدها يجب ان اعيد الكلبجة الى يدك لانه امر وانا عسكري وعلي تنفيذ الامر .قلت له: شكرا جزيلا استاذ جودت.

بقي يتحدث معي بود ووجهه يطفح بصور الم واضحة ،اما انا فقد بقيت متكوما على الارض تجتاحني رغبة عاتية في النوم! وكنت مازلت احس بألم شديد بيدي اليمنى بينما يدي اليسرى اقل وجعا وخدرا . وعندما اراد المغادرة اعاد تعليقي في الدرج وذهب، وبعد بضع دقائق دخل عز الدين لافي مرة ثانية وصرخ:الن تعترف ؟ قلت له وعن اي شيء اعترف وانا لست حزبيا؟ شتمني وتركني هناك ولا اعلم كم بقيت واعيا، ولكنني وجدت نفسي في ظلام دامس ممدا على الارض والبرد يلسع جسدي المرتعش وهو يختفي تحت موجة البرد  المنعش، ورأيت ثلاثة افراد يحملقون بي وهم يرشون الماء علي، ادركت انني فقدت الوعي .

اعادوني للغرفة فقام سليم الفخري فورا بتضميد جروح يدي بلفاف كان يحتفظ به وقدم لي تفاحة وكأس ماء فلم استطيع الاكل ولكنني شربت الماء واخذ الشعور بتناقص الالم يزداد تدريجيا ويتركز في يدي في مكان الكلبجة ، قال لي : ماذا جرى معك ؟ قلت له: ارادوا مني الاعتراف ولكنني اكدت بانني لست حزبيا. ابتسم وقال لي: نم الان لكي تستريح ، غطست في نوم عميق جدا كان عبارة عن كوابيس جعلت جسدي يرتعش، كما اخبرني الاستاذ سليم بعد استيقاظي!

في صباح اليوم التالي كان الضوء قد تسلل الى خارج الغرفة وفتحت بابها كما فتح باب الغرفة المقابلة فالباب يفتح لساعة واحدة في اليوم ، ورأيت ثلاثة اشخاص يجلسون في بابها،وكان الاشخاص الثلاثة ينظرون الى بدهشة ونوع من عدم الارتياح، فسألت سليم: من هوؤلاء ؟ اجابني ضباط شرطة شيوعيون اعتقلوا .وكنت صامتا وكان كلام الضباط الشيوعيين الثلاثة يتدحرج الى اذني واضحا، وكان ابرز ما التقطته اذني هو تعبير (الشينات الثلاثة) الذي كانوا يتداولونه فيما بينهم ومع سليم، وكان ذلك لغزا بالنسبة لي فسألت سليم : ما معنى الشينات الثلاثة؟ ابتسم وقال لي: انه يعني شيوعي وشيعي وشروكي ! وهو وصف للشيوعيين ! صدمت غير مصدق ان شيوعيين يفكرون بهذه الطريقة وهم الامميون والاشتراكيون! قال لي سليم : لاتتعجب فعالمنا غريب .بعد ايام وبعد تكرار حفلات التعذيب ونظرا للفشل في انتزاع اي اعتراف مني نقلت الى معتقل الفضيلية في اطراف بغداد ،وهناك استقبلني مجوعة من رفاقي البعثيين الذين نقلوا قبلي اليه، وكنت اعرف منهم واحدا فقط هو عادل عبدالمهدي – الذي اصبح بعد غزو العراق رئيسا للوزراء – الذي قبلني وقدم لي عصيرا واصر هو والرفاق الاخرين على التقاط صورة معي، والتقطت الصورة وعادل عبدالمهدي ملاصق لي واعتقد انه كان يضع يده فوق كتفي وان كنت غير متأكد لانني لم ارى الصورة ومر وقت طويل على هذه الحادثة،وتلك الصورة نشرها مشكورا الاستاذ مؤيد عبدالقادر في العام الماضي كما علمت ولم احصل عليها.اما عز الدين لافي فقد امر الحزب بتصفيته جسديا لكثرة جرائمه وكان ما ادى الى قتله هو امره باغتصاب احد المناضلين كي يعترف! وعندها اصيب رجال امن  النظام بحالة رعب اجبرتهم على تغيير معاملتهم للبعثيين.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *