ما هي الفائدة الاعظم للامة العربية من الانتصار الروسي؟ يمكن ملاحظة عدة ظواهر في مقدمتها العودة لعصر القوميات فضم جزء من اوكرانيا لروسيا تحول جوهري في القوة الدافعة للامم سوف يساعد على تعزيز الروح القومية لدى العرب واغلب شعوب العالم لانه هدف ستراتيجي لنا في مرحلة انهيار امتنا العربية بعد ضربات الغرب والاسرائيليتين الغربية والشرقية،فالقوميات الاوربية التي خمدت بعد الحرب العالمية الثانية وحلت محلها النزعات الفردانية الانعزالية والعدمية والوجودية والاممية…الخ، اخذت تستيقظ مجددا منذ تراجع العولمة ووصول ترامب للادارة الامريكية وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوربي واعتبار حلف النيتو ميتا من قبل فرنسا على الاقل. وزادت قوة هذا الدافع بعد حرب اوكرانيا،نتيجة تيقن اوربا كلها بان امريكا تدفع بها نحو محرقة اخطر من الحرب العالمية الثانية لخدمة مصالحها الانانية،كما ان محاصرة روسيا بلور الهدف وهو تقسيمها والحاقها بأمريكا ادى الى تعاظم النزعة القومية الروسية كبديل ستراتيجي للاممية الشيوعية، وهو ما تنبأ به كيسنجر قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بسنوات ، وردود الافعال لما حدث ابرزها العوده للانتماء القومي بصفته محرك الشعوب وهزيمة العولمة وتراجع التطرف الديني الشك بجدوى التحالفات القارية كالاتحاد الاوربي.
ولكن المشكلة في استيقاظ القوميات الاوروبية مجددا هو ان المحرك القومي لن يكون خالصا كما كان قبل الحربين العالميتين حيث كان خاليا من التأثيرات النفسية والفكرية المعقدة والتي تبلورت في القرن الجديد، فمصالح الرأسماليات الاوربية اثناء صعود الطبقة البرجوازية بلورت النزعات القومية هناك،وكانت غطاء للتوسع الاستعماري الاوربي وكانت دعوات بسيطة بحكم تدني وعي الشعوب الاوربية لحقيقة ماكان يجري وضعف الاعلام النسبي مقارنة باعلام القرن الجديد، ولكن الان، وبوجود تأثيرات عولمة مصطنعة انتجت ثم مسخت ثقافة الاوربي والامريكي واغلب شعوب العالم ايضا، اضطرب وعيه بقوة تأثير فريد على الانسان بنوع وسائل الاتصال ودفقات المعلوماتية الخانقة للوعي والفائقة الجاذبية مثل الموبايل ثم الانترنيت وكلها مسيطر عليها امريكيا وموجهة مركزيا ،وهو ما اثبتته حرب اوكرانيا بصورة حاسمة حينما دعمت شركات المعلوماتية الخطة الامريكية ضد روسيا،وهكذا نرى ان استيقاط القوميات الاوربية يختلط بتيارات لم تكن متبلورة قبل الحرب العالمية الثانية مثل هيمنة النزعات الفردية الانعزالية التي صارت ظاهرة رئيسة.
وكان لتشابك القوميات في اوروبا بعد زوال الطابع التقدمي للرأسمالية وتحولها الى معوق لاستمرار تقدم البشرية نحو نظام اخر،ثم فرضها القسري للعولمة الماسخة والممسوخة وتداخل المصالح في شركات متعددة الجنسيات…الخ الاثر العميق في افقاد الانسان الغربي هويته القومية التقليدية وتعرضه لضياع وتشوه فكريين ونفسيين عميقين جعلاه حائرا بين عدة تأثيرات،فانتجت ظواهر كثيرة صعبة المقاومة ادت الى تيهه في عالم يتجه اكثر فاكثر نحو المجهول المظلم،وهو امر يؤثر بقوة على النزعة القومية المستيقظة في الغرب لانها اسيرة طوارئ حديثة هي مزيج متنافر من هويات متنوعة فردانية ومرضية نفسية ،وتدفق معلومات هائل وغير مسبوق اصبح مسبب اضطراب بدل ان يكون عامل وعي نتيجة تناقضات المعلومات المتعمد احيانا وكثرتها التي ما ان يبدأ العقل بأستيعاب واحدة منها حتى تهجم عليه عشرة معلومات تبعثر فهمه وتعيده لنقطة البداية! وهكذا يتجمد العقل ويعجز على الاستيعاب والفرز والتقييم ويصل حد التعب واليأس من محاولة تنظيم فكره ووعيه بعد ان افقدته السيطرة على وقته وعلاقاته العائلية والاجتماعية، فالمعلوماتية وان زادت معلومات الانسان العامة بصورة هائلة الا انها خنقته وافقرته روحيا وثقافيا بدل جعله يتقدم، والتناقض في المؤثرات ادى الى زيادة العجز عن الاختيار الدقيق للانسان، والسبب معروف علميا فالانسان عاجز عن التفكير العميق في اكثر من موضوع واحد في لحظة واحدة ولهذا فانك عندما تغرقه بالمعلومات يفقد السيطرة على نفسه ويستنزف فكريا ونفسيا ثم ينهار جسديا،وفي حالته هذه كيف يسيطر على مسار العالم اذا وهو لايعرف نفسه ولا يسيطر عليها؟وتدفق المعلومات ليس عفويا لان العلماء اكتشفوا صعوبة الحسم لدى الانسان عندما يجبر على تقييم عدة افكار بنفس الوقت والغرض هو السيطرة على الانسان.
وهكذا فان النزعات القومية المنبعثة مجددا في اوروبا ستكون هجينة فكريا ونفسيا، ومختلفة عن النزعات القومية الاوربية قبل الحرب العالمية الثانية، وتلك بؤرة للعديد من الالغام التي سيكون تفجيرها ممكنا بين الاوروبيين انفسهم ومع العالم كله، ومنها لغم الركون للانانية القومية بصورة وحشية اكثر مما سبق في كل التاريخ الاوربي بعد ان اضطربت بوصلة الانسان الاوربي واصبح اسيرا للانانية المفرطة والخواء الروحي التام والعزلة القاتلة حتى وهو يعيش وسط الالاف من الناس ،ولكن المفارقة هنا هي ان مصدر خطره هو انه يملك وسائل تدمير اشد خطورة من الاوربي في القرن العشرين،فهو في القرن الحادي والعشرين وكذلك الفرع الامريكي له،اكثر تقدما تكنولوجيا واوسع اتصالا بغيره وبالعالم واكثر معرفة بتعقيدات الكون والتي تم تبسيطها في علوم بداية القرن العشرين ،فمشكلة الانسان المثقف في القرن الجديد هي انه اخذ يفهم المزيد من طباع البشر ومع هذا التقدم زاد جهله بحقيقة الانسان ودوافعه، وزاد الطين بلة انه اكتشف ان فهمه للكون كان بسيطا وجزئيا بعد ان اكتشف معلومات لم تكن تخطر على بال! وتلك من اخطر مفارقات زماننا وهي التي جعلت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقول اما ان تعيش روسيا او يفنى العالم كله معها ! لقد وصلت اوربا ومعها العالم الى مرحلة التفكير ب(اما ان اعيش او يفنى العالم معي) وتلك هي نقطة تحول هي الاخطر في تاريخ البشرية فعندما يصل القادة والبشر العاديين الى حدود التفكير بالانتحار او النحر فان البشر يكونون قد وصلوا مرحلة فقدان عامل الاستقرار وهنا يكمن احتمال فناء البشرية!
وبعكس ذلك فان النهضة القومية العربية ستكتسب زخما جديدا مضافا الى محركاتها الاصلية بتاثير هذا النهوض المتجدد للقوميات الاوروبية لانه يدعم قناعة العرب القديمة بان القوميات وليس الاممية هي محرك الشعوب الامر الذي سيعزز الايمان بان الخلاص لايمكن تحقيقه الا عبر الهوية القومية، خصوصا وان القومية العربية كانت ضحية القوميات الاوربية وامريكا ولم تكن جلادا مارس الابادات لعشرات الملايين من البشر كما فعلت النخب الاوربية،ثم شوهت هذه النخب العالم نفسيا وعقليا وبيئيا ودفعته لمرحلة الاختيار بين البقاء او الانتحار، وبالتالي لم تتعرض القومية العربية للعدمية والضياع وقتل الضمير بمعرفة الانسان انه يقتل من اجل النهب رغم انه متخم حد المرض بالثروات،واحيانا للتلذذ بقتل الاخر، كما فعل ويفعل الاوربي والامريكي،وهذه التشوهات الضميرية والنفسية هي نتاج الغرب المتطور وثقافته،بل ان القومية العربية حافظت على جوهرها كهوية للعرب كانوا ومازالوا ضحايا للجلاد الغربي والصهيوني والفارسي،ويتعرضون لكوارث صنعها ذلك الجلاد عمدا ،الامر الذي سيعزز الطابع التحرري للهوية القومية العربية ويحدد مساراتها وحدودها وهي انها تناضل من اجل ضمان حرية الانسان وعيشه بكرامة وعدل وتعايشه سلميا مع غيره.
ولكن ما يجب الانتباه اليه بطريقة استثنائية هو ان النهضة القومية العربية الاتية وان توفرت عواملها الموضوعية المطلوبة الا ان ما يجب ان يتوفر ايضا هو العامل الذاتي الذي يستخدم تلك العوامل ويسخرها لخدمة الامة العربية بالتوعية القومية وبطبيعة العصر الجديد، ولان الحركة القومية العربية تشكل خطرا مميتا على هيمنة القوى المعادية فان مخابرات تلك القوى ركزت منذ عقود على منع النهوض القومي العربي مرة اخرى بعد نهوض الخمسينيات وحتى غزو العراق،ويبدو واضحا ان مهمة المخابرات الغربية والصهيونية والفارسية بشكل خاص هي قطع الامل في الاستفادة العربية من تحولات العالم ،وهذا يمكن ان يفسر احد اهم اسباب تبني قانون رسمي باجتثاث حزب سياسي لاول مرة في تاريخنا الحديث وهو (قانون اجتثاث البعث) الذي وضع لضمان بقاء هيمنة القوى المعادية في منطقة تعد من اهم مناطق العالم ليس فقط بثرواتها بل ايضا بموقعها الجيوبولتيكي، فهي منطقة الصراع ونقطة المرور لكل مشاريع القوى الصاعدة والنازلة كالصين وروسيا وامريكا واوربا والصهيونية والفرس والترك،ولهذا نفذت خطط استباقية في مقدمتها منع انطلاقة البعث وبقية القوى التقدمية لتجنب اعادة سيطرتها على الشارع العربي، وذلك لايمكن اكماله من دون اجتثاث البعث.
ولان البعث يتحمل المسؤولية الاساسية في تحقيق النهضة القومية العربية فهو مطالب بتعزيز وحدته ومنع تحريف هويته العقائدية والتخلي عن ستراتيجيته القومية،فلا تحرير للارض ولا حرية للانسان العربي الا بقوه الطلائع الثورية، ولا دور للطليعة عندما تشغل عمدا بمشاكل داخلية او جانبية تسهل مهمة اجتثاثها من الداخل.انها فرصة تاريخية لن تعوض ولن تتوفر مرة اخرى تلك التي تتيحها الان الحرب في اوكرانيا وما ترتب عليها من تاثيرات اهمها وجود حاجة روسية وصينية لتحالفات مع العرب وغيرهم من اجل اكمال عزل امريكا عن اوربا ودعم التوجهات الاستقلالية الاوربية،واعادة بناء جبهة العالم الثالث الصاعدة، وهكذا سوف نرى عالما اخرا تنحدر فيه امريكا، ويؤدي تياره الغالب لكبح جماح النزعات القومية الهجينة المستيقظة في اوربا ودفعها بالضغط والاغراءات لتتكيف مع نظام عالمي متعدد الاقطاب اصبح بزوغه حتميا. يتبع.