لابد من مناقشة قضية متصله بعلاقة الدين بالقومية، وهي اطروحة تغليب الانتماء الاسلامي على العروبة، فهي انحراف خطير اسسته بريطانيا في عشرينات القرن الماضي، واستخدمته المخابرات الامريكية بعد ذلك ، ثم الموساد ومخابرات الفرس، وكل هذه الاطراف وضعت خطط نعرفها الان بوضوح لاعداد تيارات دينية شيعية وسنية في معاهد ومراكز بحثية اكاديمية تعمل على القضاء على القومية باسم اممية الاسلام،وبنفس الوقت تمهد لشيطنة الاسلام. ومن بين ابرز اطروحاتها الادعاء المضلل بان القومية تفرق المسلمين،ورأينا نتيجة هذه الخطط وهي ظهور احزاب اسلاموية تعادي القومية العربية وشنت حروبا شعواء ضدهاـ واخيرا قدم لنا الغرب ومخابراته القاعدة ثم داعش فنشرتا الكوارث في الوطن العربي، ورأينا خميني وباسم الاسلام يدمر نهضة العرب الحديثة في العراق.
ان دعم تيارات اسلاموية تعادي القومية العربية جزء من تلك المخططات وقامت على تفتيت الوحدة الوطنية في الاقطار العربيه بفتن طائفية ومحاولة انهاء اهم الروابط التي تجمع العربي بشقيقه العربي الاخر وهي الرابطة القومية،ولذلك ولدحض هذه الاطروحة لابد من طرح السؤال التالي:من وقف مع السعوديه ودول الخليج العربي وهي تتعرض للاعتداءات من دولة (اسلامية) هي اسرائيل الشرقية (ايران)؟ اليس العراق وبقيه العرب؟ ثم ماذا فعلت باكستان عندما جد الجد وتعرضت السعودية لتهديدات وقحة من الفرس؟باكستان اخذت تسترضي طهران بدل ان تعلن دعمها التام للسعودية،رغم المبالغ الهائلة التي قدمتها السعودية دعما لها في انتظار ان ترد بدعم السعودية عندما كانت تقصف بمسيرات ايرانية اطلقت حتى من الاحواز التي تحتلها اسرائيل الشرقية!
ان مشاعر الباكستاني تجاه السعودية غير مشاعر العربي فالاجنبي المسلم – باستثناء الفارسي- ينظر للسعودية باحترام كبير، ولكن كيف يكون رد فعله عندما تتصارع دولتان اسلاميتان؟ انه الحياد او في افضل الاحوال التوسط لانهاء الصراع من منطلق واضح وهو ان كلا البلدين مسلمين! هذا ما حصل مع العراق اثناء شن خميني الحرب ضده، فهل نتوقع من باكستان ان تدخل صراع مع اسرائيل الشرقية من اجل السعودية؟طبعا لا،ولكن بالمقابل كيف يتصرف قطر عربي كالعراق في مثل هذا التحدي؟ انه الوقوف بحزم وقوة مع السعودية في خندق واحد، مهما كانت الخلافات بينهما، والسبب هو ان رابطة العروبة اقوى بمراحل من الرابطة الاسلامية، وهذا من اهم دورس تاريخنا العربي اثناء حكم الدولتين الاموية والعباسية وما بعدهما والتي اكدت بان العربي سواء كان مسلما او مسيحيا او صابئيا يسند العربي الاخر بلا تردد ، بينما المسلم غير العربي ما ان يتمكن حتى يضطهد العرب بطرق مختلفة، وكان انهيار الدولة العباسية احد اهم اسبابه الاعتماد عسكريا على غير العرب، بينما حقق العرب اعظم الفتوحات بقوة عربية وحتى حينما ضمت غير العرب انتصرت لان القيادة للجيوش كانت عربية.
وبناء عليه فالمنطق السليم والواقعي يقول بأنه يجب ان تقيم اولا الوحدة العربية،او التضامن العربي كحد ادنى، فمن المستحيل قيام وحدة اسلامية بدون ان تسبقها وحدة عربية ومن يقول غير ذلك فانه يجعل وحدة المسلمين مستحيلة عمليا، ولو تخيلنا للحظة عدم وجود الطليعة العربية التي شكلت الجيوش الفاتحة فهل كانت الفتوحات الاسلامية ستحدث؟ والان وقد انهارت العولمة لانها مفروضة،وعادت القوميات الاوروبية وغيرها لتصبح القوة الاساسية المحركة للمواقف والتحالفات اليس من حق العرب ان يواجهوا تحديات العالم باسم قوميتهم ؟
ان الدعوة لتغليب الرابطة الاسلامية على العروبة ستؤدي الى تفتيت العروبة والاسلام معا لان وضع العربة امام الحصان لن يؤدي الى سير العربة ولا الحصان،وهذا ما تحتاجه امريكا واسرائيليتين الغربية والشرقية،ولم تكن صدفة ان المنظمات الاسلاموية المتطرفة كالقاعدة وداعش اعدمت عشرات الكوادر القومية العربية التي كانت تقود المقاومة في العراق ضد الاحتلال الامريكي وتلحق به خسائر فادحة رغم ان تلك الكوادر لم تقاومهما ولكنها اعدمت بحجة (انها كافرة) وسحقت بالدبابات امام الناس وهم احياء مثل ما حصل في الموصل في عام 2014 . وزاد دورها الخطير عندما صورت المقاومة العراقية على انها مقاومة سنية وضد الشيعة، وهو ما فعله الزرقاوي الذي دعا لقتل الشيعة! وهذا تكتيك مخابراتي امريكي –بريطاني معروف،واكملت الميليشيات التابعة للفرس الكارثة بقيامها بقتل السنة على الهوية! وهكذا اجهضت عملية تحرير العراق بعد ان حولت المقاومة ضد الاحتلال الامريكي الى صراع طائفي!
ان اعتبار القومية ايديولوجيا وليس هوية كاملة، ثم الدعوة للتخلي عنها حالة تصيبنا بافدح الاضرار نحن العرب خصوصا السعودية، فهي وقد تخلصت من الوهابية سيكون التخلي عن الانتماء القومي العربي ايضا خطأ قاتل لانه سيضع السعودية امام انكشاف نفسي وروحي وثقافي كامل لتجردها من الوهابية ثم تجريدها من الرابطة القومية، وهكذا عندما تجرد اي امة او شعب من الرابطة الدفاعية الاساسية التي توحده يبدأ رحلة التفكك الداخلي وصولا الى الهزائم الحاسمة، فشعب يقاوم تحديات خطيرة وهو مجرد من اللحمة العضوية المتينة التي توحده لايمكنه المقاومة والصمود،واللحمة هي الصلة الروحية والثقافية واللغوية والنفسية والتداخل الاجتماعي والمصالح المشتركة،وهي لاتتوفر في الايديولوجيا وان كان ممكنا مؤقتا ذلك، لانها منظومة فكرية قد تقبل وقد ترفض،ولكنها تتوفر في الهوية القومية،وهذا ماحصل في السعودية مع الوهابية حيث اعتمدت ثم رفضت. وهنا نرى الخبث الغربي والصهيوني والفارسي الذي صور القومية العربية على انها ايديولوجيا مثل اي ايديولوجيا اخرى.
فهل فكر السيد تركي الحمد بكل ذلك عندما استنسخ مفهومه للقومية من الغرب فاعتبر القومية ايديولوجيا وليس هوية بدون اي انتباه للنتائج المترتبة على السعودية عندما تفقد الهوية القومية والهوية الوهابية معا فتصبح بلا هوية توحد الشعب وراء قيادته؟ ان التخلي عن الهوية القومية يجرد الشعب من قوة اللحمة التي توفر الشرط الحاسم لوقوف الشعب موحدا بغالبيته الساحقة يدافع عن وطن الاجداد والاباء العرب والذين وجدوا قبل اليهودية والمسيحية والاسلام ولذلك توزع العرب بين كل الديانات والطوائف في تعبير حاسم عن تفوق العروبة على الرابطة الدينية في مجال الحياة الدنيوية في حين يتفوق الدين في مجال الروابط الميتافيزيقية.
العرب الان ينهضون فمن كان يتخيل قبل عامين ان السعودية ستتحرر من الوهابية والتطرف الاسلاموي بهذه السهولة والسرعة ؟ ومن كان يتخيل قبل عامين بان السعودية سوف تعيد النظر بعلاقتها بامريكا وتقيم صلات وصفت بالستراتيجية مع روسيا والصين في اكبر تحد لامريكا؟ ومن كان يظن ان السعودية سترفض ضغوط امريكا لزيادة انتاج النفط لاحباط خطة بوتين؟ كل هذه التطورات ظواهر ايجابية وبداية صحيحة، وواجبنا دعمها وليس تجريدها من مصدر قوتها وهو الرابطة القومية التي ستبقى بينما الايديولوجيات تزول.ولعل السؤال التالي مهم جدا لتحديد الحقيقة : اذا تخلى السعودي والعراقي والجزائري والمصري عن القومية العربية فما هي هويته؟ وما هي لغته التي نطق وينطق بها وبها يتفاهم مع اهله وشعبه؟ يقينا كلنا نعرف بان العثور على هوية بديلة ليس مهمة عقد من الزمن بل هي نضال قرون كي تتبلور الهوية ، فعلى اي شيء ستستند السعودية بعد تخليها عن الوهابية والان يطالب السيد الحمد بالتخلي عن القومية العربية؟
ان الوطنية السعودية فرع من القومية العربية وليس فيها اقليات قومية والصلة القومية متجذرة وهي التي شكلت هوية سكان الجزيرة العربية طوال الاف السنين في كل تطورات اللغة العربية ولهجاتها من المسندية الى الان، لذلك فان اقوى صلة عضوية وليس سياسية او ايديولوجية توحد السعودية وتعزز لحمتها وترسخ جذورها الوطنية هي القومية العربية،فهي هوية حضارية وليست انتماء عرقيا، وهي عصرية ومنفتحة،وهي تسعى للنهوض والتقدم العلمي والتكنولوجي، وكل تلك الشروط تشكل دعما مباشرا لاي مشروع جدي لنهوض السعودية في عالم معاد لنا، وهي في هذا المجال توفر للنهضة الوطنية السعودية التي يمثلها الامير محمد بن سلمان دعما شعبيا عربيا شاملا كما وفرت لعبدالناصر وصدام،وهو ما يحتاجه في مواجهته للغرب والصهيونية وللتحديات الداخلية التي ستكون خرم الابرة والذي يجب ان يسد باسرع وقت، فهل يدرك السيد الحمد انه بتصويره القومية العربية على انها ايديولوجيا فاشلة يضرب مشروع بن سلمان في الصميم بتجريده من القوة الجبارة المعنوية للقومية العربية ومن القوة الجبارة للجماهير العربية التي تدعم كل نهوض قومي عربي حقيقي؟
الغرب الاستعماري، ومعه الصهيونية والقوميون الفرس،يرى ان الترابط بين العروبة الاسلام هو مصدر قوتهما كليهما فالاسلام بصفته روح العروبة يمنحها هوية حضارية مضافة للهوية القومية التقليدية وهو ما يعزز تلاحم العرب ويجعل انتماءهم القومي راسخا ويتعدى الانتماء القومي التقليدي كما في اوربا.فمثلا تتميز القومية العربية عن القوميات الاوربية، التي عزلت الدين عن السياسة،بانها تعد الاسلام الثقافة القومية لكل العرب بما في ذلك غير المسلمين، ولذلك نجد تداخلا لا يمكن فصله في التقاليد والاختيارات الخاصة في السلوك والتعامل والتسميات والاعتزاز بالتراث العربي الاسلامي الذي صنعه كل العرب قبل وبعد الاسلام . وتجسد ذلكرفي اعظم مقولة قيلت وادقها والتي سجلها التاريخ لمفكر مسيحي عربي هو ميشيل عفلق والذي لخص صلة العروبة بالاسلام بقوله (العروبة جسد روحه الاسلام)، فهل توجد صلة عضوية راسخة كصلة الروح بالجسد ونحن نعرف ان مغادرة الروح تعني موت الجسد؟
من هنا فان من يريد تدمير العروبة عليه اولا فصلها عن جوهرها الحضاري والثقافي وهو الاسلام ، وبالمقابل من يريد تدمير الاسلام عليه اولا فصله عن العرب وفتح مجال لغير العرب لاستخدامه بطريقة تشيطنه وهو تفعله اسرائيل الشرقية مثلا. وحتى في حالة وجود اخلاص للاسلام لدى غير العرب فان الخلفيات الثقافية والديانات السابقة للاسلام والتفسيرات اللغوية لما ورد في القران وفي السيرة النبوية تتعرض لتأثيرات سلبية، وهو ما نلاحظه مثلا في الهند وباكستان حيث يتداخل الاسلام مع البوذية والهندوسية والسيخية ويمارس مسلمون طقوس وتقاليد غير اسلامية ويعتنقون تفسيرات للاسلام لا صلة لها به.
وعندما نبحث خطط الغرب الاستعماري نلاحظ ان اهم اهدافه هو منع تحقيق الوحدة العربية (تقرير بنرمان مثلا) وليس منع الوحدة الاسلامية لانه يعرف ان الوحدة العربية ممكنة لانها تجمع شعبا واحدا وهوية واحدة، والاهم انها كانت موجودة وقدمت انجازات عظيمة للعرب والبشرية كلها في العصرين الاموي والعباسي، وانه اذا اعيدت وتحققت فانها سوف تضمن للعرب دورا عالميا قياديا ومبدعا للحضارة من جديد. ويجب ان نتذكر دائما ان الغرب والصهيونية قررا اختيار فلسطين لتكون (وطنا قوميا لليهود)، ولم يتم اختيار اندونيسيا مثلا وهي دولة اسلامية كبيرة ولا غيرها، فترتب على ذلك القرار سلسلة خطوات اتخذها الغرب الاستعماري عبر بريطانيا لمنع الوحدة العربية بكافة الطرق وتبنى ستراتيجية تفتيت وتقسيم الاقطار العربية على اسس عنصرية وطائفية(فرق تسد)، ومنها خطط برنارد لويس وعوديد ينون، والتحالف مع جيران العرب لاجل استنزافهم مثل الافارقة والاتراك والفرس .
وبما ان الغرب هو القابلة التي ولدت الكيان الصهيوني وهو الحاضنة التي تحميه فان اهدافهما اصبحت مشتركة على المستوى الستراتيجي العام وابرز هدف كان ومازال هو تدمير الهوية القومية العربية لاجل تحويل اكثر من 420 مليون عربي الى كتل بلا هوية جامعة ومشتركة وهي حالة تجبر كل كتلة الى العودة الى علاقات وتأثيرات ما قبل الامة والوطنية كالطائفية والعرقية والقبلية والمناطقية والاقطاعية …الخ.ولو اتحد العرب فان اول انهيار سيكون لاسرائيل الغربية والمصالح غير الشرعية للغرب،وتراجع عدوانات الفرس علينا.فهل يمكن بعد كل هذا ان نغفل النتائج الكارثية للحط من شأن القومية العربية؟ يتبع.
5-3-2023