منهم من هو عازف بكامل إرادته أو بدافع من قناعته أو حتى على سبيل الصرعة والتغريب، ومنهم من هو مجبر على العزوف ريثما تتيسّر الأمور. وعلى طرف النقيض من العزوف، إقبال وإسراع يصل في بعض الأحيان إلى التسرّع والتهور لـ «إكمال نصف الدين» أو «لأنها سُنّة الحياة». وتظل هناك فئة محتفظة بمنطق انتظار ظهور الشريك المناسب في الوقت المناسب وفي الظرف المناسب. مناسبة الإعلان عن تعداد مصر الرسمي قبل أسابيع من قبل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فتحت باب الزواج والعزوف عنه على مصراعيه. صحيح أن الأرقام تقول أن المصريين شعب يميل إلى منظومة الزواج ثقافياً ودينياً، إلا أن ما لم يكشفه التعداد هو ذلك الصراع والجدل الدائر في أروقة شبابية غير رسمية.
وفق التعداد، نسبة المتزوجين من إجمالي عدد السكان 68 في المئة، وهي نسبة كبيرة تبرهن على أن الاتجاه للزواج هو السائد. لكن في الوقت نفسه، فإن طرفي نقيض يظهران في شكل واضح بين الشباب والشابات. فبين اتجاه لتزويج الصغار (لا سيما الإناث) وآخر للعزوف عن الزواج، وقلق من تدني سن الزواج وعودة إلى زواج الأطفال وقلق مضاد من ارتفاع سن الزواج وتفاقم ظاهرة ما يسمى «العنوسة»، ودعوات إلى خفض سن الزواج وأخرى إلى رفعه، تموج مصر بمفارقات وتناقضات عجيبة غريبة.
غرابة تصريحات رسمية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قبل عام لطمأنة المصريين بأن تأخر سن الزواج للفتيات لا يدعو إلى القلق، ثم تصريحات صادرة عن الجهاز نفسه بعد عام بالتمام والكمال مفادها أن تدني سن زواج الفتيات يدعو إلى القلق، تعني إما وجود عطب في التصريحات أو خلل ما في المجتمع.
وأغلب الظن أن الأخير هو الأقرب. فعلى مدى سنوات طويلة ساد قلق عارم أوساط المصريين من تفاقم ظاهرة «تأخر سن زواج الفتيات»، وهو ما دفع رئيس الجهاز إلى التصريح في العام الماضي بأنه لا داعي للقلق. وقال إنه وفق تعداد 2006، بلغت نسبة غير المتزوجات في سن الـ16 عاماً 97.8 في المئة، وفي سن الـ18 عاماً 87 في المئة، وبين الـ20 والـ25 عاماً 48.5 في المئة، وبين الـ25 والـ30 عاماً 16 في المئة فقط، وهذه الفئة الأخيرة كانت مكمن القلق. لكن القلق في إعلان التعداد الجديد قبل أسابيع كان زواج الطفلات دون سن 18 عاماً، بل إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تحدث مطولاً عن صدمته من وجود فتيات أرامل ومطلقات في سن 12 عاماً.
زواج الطفلة في مصر ظاهرة متفاقمة. صحيح أنها لا تعني بالضرورة إقبالاً على الزواج من قبل العروس، لكنها تعني أن أحدهم مقبل وبشدة. وبين حقوقي يصف الظاهرة بأنها «اغتصاب للطفلة برضا الأهل» ومتشدد يجول على الفضائيات مؤكداً أن «تحديد سن زواج الفتيات حرام شرعاً»، وأهل إما راغبين في التخلص من عبء الصغيرة المادي أو حريصين على اتباع العادات والتقاليد المميتة، يشير تعداد 2017 إلى 132 ألف حالة زواج أطفال.
هذا الإقبال لا يُعتدّ به كرأي أو موقف من الشباب والشابات تجاه الزواج لأنه مفروض. «المفروض على من يمتلك عقلاً وقلباً أن يمتنع عن الزواج وإنجاب الأطفال في هذه المنطقة كلها (العربية). فهي منطقة على صفيح ساخن مهددة بالحروب والصراعات والعنف والقتل على الهوية. وإن نجونا من هذا التهديد، فإن تهديدات أخرى تتواتر تبدأ بفقر الشعوب وفساد الحكام، وتمر بإقحام للدين وتفسيرات خيالية له تنغص حياة الجميع، وتنتهي بتدخل البعيد والقريب تحت شعار «العادات والتقاليد» في أدق تفاصيل الحياة». وبعد ما استعرض خالد ناصر (28 عامًا) تحليله للمشهد، يخرج بنتيجة مفادها أن «كل من يملك عقلاً يزن به الأمور ويحمل قلباً يتسع ليس فقط لمحبة نفسه وأهوائها بل للأبناء الذين سيلقي بهم إلى التهلكة لمجرد رغبته في أن يكون له ولداً أو بنتاً، عليه إما الزواج مع شرط عدم الإنجاب، أو عدم الزواج، أو الهجرة إلى حيث يعيش البشر عيشة آدمية».
«العيشة الآدمية» للبعض هي بطبيعة الحال «عيشة غير آدمية» للبعض الآخر. وما يبدو «تعقلاً ومحبة» هنا هما «تهوراً وأنانية» هناك مضافاً إليهما توليفة من «معاداة الدين» و «مخالفة الشرع» و «انتهاك العادات» و «اغتصاب التقاليد». وقبل أن تتواتر الاتهامات ويصعب تفنيدها، قالت هاجر سعيد (23 عاماً) (طالبة في جامعة الأزهر) أن «الامتناع عن الزواج خوفاً من الفقر أو حرصاً على الصغار حتى لا يواجهون المصاعب والمعاناة في حياتهم غير جائز بأي حال من الأحوال، لما فيه من سوء الظن بربّ العالمين الرزاق الرحمن الرحيم. فالرزق بيد الله، وهو سبحانه الذي يتكفل برزق الأبناء والآباء وبمعيشتهم. وكل من يتحجج بفقر وصعوبة معيشة وغير ذلك، إنما يحاول الهرب من شرع الله ويكون آثماً»!
هاجر تختزل منظومة الزواج بالإنجاب، وتلمح إلى الزواج باعتباره القناة الشرعية لإشباع الرغبات الجنسية، ومن ثم فإن تاركه أو مؤجله أو لاغيه سيقع حتماً في المحظور. حظر الحديث عما يمثله الزواج – بعيداً من النكاح والإنجاب ودرء الشهوات- هو حظر مجتمعي إلى حد كبير. فما أن ظهرت الممثلة شيرين رضا في حوار تلفزيوني مع المذيعة لميس الحديدي، وقالت إنها لا تتمنى أن تتزوج ابنتها البالغة من العمر 27 عاماً لأن طموحها (الابنة) أبعد من ذلك بكثير، وأن الزواج والإنجاب ليسا بالضرورة هدف الجميع، حتى قامت الدنيا ضدها ولم تقعد بعد.
تعليقات رواد مواقع التواصل الاجتماعي– وأغلبها من شباب وشابات دارت في إطارات تتعلق بـ «الفنانين الذين يعتقدون أن مهتمتهم هي خراب المجتمع وهدمه بتوجهات غريبة ومستوردة من الغرب» و «أعداء الدين الذين هدموا أخلاق الكبار بالفن الحرام ثم حان وقت الشباب بالدعوة إلى الفسق والفجور وإقامة علاقات جنسية دونزواج» و «الأفكار التي تؤكد أن هناك من يعيش في مصر والعالم العربي، لكن بفكر لا يمتّ إلى العرب بصلة». قليلون فقط هم اعتبروا ما قالته شيرين رضا حرية شخصية.
لكن في مصر، الزواج وعدمه، كما العزوف والإقبال، والإنجاب وعدمه، ليست حرية شخصية. وإن اعتبرها صاحب الشأن كذلك، فإن من حوله يعتبرون تدخلهم فيها وإصدار الأحكام عليه حرية شخصية كذلك، بل وواجب وطني وجهاد ديني. وفي حال أذعن صاحب (ة) القرار للضغوط المجتمعية ووقع في حيص بيص لأنه لم يكن مقتنعاً بالقرار، ينسحب المجتمع من حوله، ويلتزم الجميع بيته لأن مشكلاته حينذاك تكون شأناً شخصياً لا شأن لهم به!