مرت الأيام والشهور على حادثة “منى” وفقدها لطفلتها.. الغريب في الموضوع أنها لم تتأثر بفقد ابنتها .. لكن كثرت المشاكل والمشاحنات بينها وبين أمها لأنها تصر على الخروج من المنزل، وأحيانا دون علم أحد بحجة أنها ملّت من البقاء في البيت .. في الوقت الذي آثرت فيه أختها “أمل” أن تبتعد قليلًا عن بيت أسرتها، بسبب كثرة المشاكل والمشاحنات في بيت العائلة، وكذلك تصرفات أختها المريبة، والتى كانت تسبب لأمل مشاكل مع زوجها ، الذي دائمًا مايعايرها بأختها والتفكك الأسري الذي تعيشه، لذلك آثرت الابتعاد وخاصة أنها كانت مشغولة في عملها وفي ورعاية أسرتها، إلى أن جاء يوم اتصلت بها أختها تليفونيًا وطلبت منها الحضور إلى المنزل لشىءٍ هام .. وبالفعل بعد خروجها من العمل توجهت لبيت الأسرة واختلت بأختها لترى ماعندها .. فوجئت بأختها تعطيها خطاب استدعاء لها من مباحث أمن الدولة .. تسمرت “أمل” في مكانها وهممت باندهاش وقلق قبل أن تفقد النطق: أمن الدولة !! .. صمتت لفترة والأفكار تطوف أمامها ، والدهشة ممزوجة مع القلق والتوتر ومرسومة على وجهها .. عادت وسألت اختها لماذا يستدعيكي أمن الدولة ؟؟!! .. ماذا فعلتي؟؟!! .. كادت أن تصرخ فيها، لكنها تذكرت أن زوجها يجلس مع أبيها في الحجرة المجاورة .. أقسمت لها “منى” أنها لم تفعل شيئًا، ولا تعلم ماهو سبب استدعائها، فقد حضر شخص في الصباح وسلمها الاستدعاء، ونبهها أن عليها الذهاب صباحًا إلى مكتب أحد ضباط أمن الدولة ، وذكر لها اسمه ومكانه.. قالت لأختها أنها تخشى الذهاب بالإضافة إلى أن والدها منعها من الخروج نهائيًا، وطلبت من “أمل” أن تذهب بدلًأ منها لمعرفة سبب استدعائها .
خافت “أمل” من الذهاب بمفردها فصارحت زوجها مضطرة، وطلبت منه أن يذهب معها لمعرفة سبب استدعاء أختها وبالفعل .. فى الميعاد المحدد توجهت “أمل” وزوجها إلى مقر أمن الدولة والذي كان يقع في ذلك الوقت في شارع فؤاد – وهو أحد الشوارع الهامة والقديمة في مدينة الإسكندرية – وأظهرت لهم الخطاب وبه اسم الضابط المختص، سارا وراء أحد العاملين في الجهاز في ممرات طويلة وكثيرة إلى أن وصلت هي وزوجها إلى مكتب الضابط المختص، وطوال الطريق وهي تقرأ القرآن وتدعو في سرها أن يكون الأمر خيرًا .. قابلت الضابط وهو فى الحلقة الرابعة من عمره، وقد لاحظ اصفرار وجه “أمل” وخوفها البادى عليها .. عرفها وزوجها بنفسه وقال لها إنه أرسل لأختها يستدعيها بسبب أنها كانت على علاقة بصائغ، وأنها سحبت منه بعض المصوغات الذهبية ولم تسدد ثمنها ، وطبعا بعد أن انتهت العلاقة بينهما طالبها بالسداد كثيرًا، لكنها كانت تتهرب من الرد عليه وهو صديق لذلك الضابط وانه استدعاهم لحل المشكلة بشكل ودي، ولكن نبرات صوته كانت تحمل تهديدًا مستترًا.
لم تدرِ “أمل” ماذا تفعل لكنها وعدت الضابط بأنها ستسدد المبلغ المطلوب،خاصة أنها تعرف الصائغ وتعرف محله .
انصرفت “أمل” ، وطوال الطريق وزوجها يكيل لها الشتائم والإهانات بسبب تصرفات أختها غير المسؤولة.. لم تكن تسمعه .. كانت تفكر كيف ستحل تلك المشكلة، اتصلت بأخيها فى كندا لتسأله المساعدة في تدبير المال، ولكن قبل أن تخبره بماحدث وتطلب منه المال، طلب هو منها أن تخبر أباه أنه سيتزوج من أجل الحصول على الإقامة في كندا، وأنه يحتاج لبعض المال لإنهاء اجراءات الزواج .. أسقط في يد “أمل” .. لم تدرِ ماذا تفعل ولا ماذا تقول، أخبرت أبيها أولًا بموضوع زواج أخيها “أمجد”، وأنه يحتاج إلى المال لأنه شىء ضرورى لتسوية وضعه القانونى هناك، وطبعا كانت أمها تحث الأب على إرسال المال اللازم لإبنها “أمجد”.
لم تدر “أمل” ماذا تفعل مع أختها “منى”لحل مشكلتها، خاصة أنها لن تستطيع إخبار أحد بهذا الأمر، فما كان منها إلاّ أن قامت ببيع بعض حليها الذهبية دون علم زوجها، وأوهمته أن أمها هي التي سددت المبلغ، وبالرغم من ذلك لم تسلم من لسانه.
.. تزوج “أمجد” من فتاة كندية كانت تحبه كثيرًا، واستطاع تسوية وضعه القانونى من حيث الإقامة هناك، ورزقه الله بطفل جميل .. وفي أول إجازة له حضر هو وزوجته وابنه لقضاء بعض الوقت مع العائلة، وكذلك ليروا ابنه.. وبعد تلك الزيارة قلت أخباره واتصالاته بأهله .. شغلته الدنيا والعمل وأسرته عن عائلته في مصر ، والحقيقة رغم انه تحمل مسؤولية أسرة إلّا أن تصرفاته لم تتغير كثيرًا، فكانت له نزوات كثيرة.. علمت زوجته ببعض تلك النزوات وتسبب ذلك في مشاكل كثيرة بينهما وكان يتصل بين الحين والآخر بأخته “أمل” يحكي لها عن تلك المشاكل، وكانت أخته تذكره دومًا بأنه أصبح ابًا مسؤولًا عن عائلة، ويجب عليه أن يتحلى بالعقل ويبتعد عن تلك التصرفات الصبيانية، لكنه كان يقابل نصائحها بالضحك في كل مرة ويقول لها كلمته المشهورة ” سبنالك انتى العقل” ..
سارت الحياة مع “منى” على وتيرة واحدة .. شجار دائم مع الأم، ومشاكل ومشاحنات بين الحين والآخر ، وأحيانًا تترك بيت العائلة وتذهب لقضاء بعض الوقت هى وابنها عند أختها “أمل” إلى أن مرض الأب مرضًا عضالا ، ولم يكن قادرًا على خدمة نفسه، والغريب أن التي تفانت في رعايته وخدمته هي “منى”، فقد كانت تحب أبيها أكثر بكثير من أمها التي لم تكن على وفاق معها في يوم من الأيام
.. توفى الأب بعد صراع مع المرض ، وحزنت “منى” عليه كثيرًا ، ولم يتمكن “أمجد” من الحضور ليرى أبيه في محنة المرض، ولم يتمكن أيضًا من حضور الجنازة أو العزاء بحجة ضيق الوقت.
بعد وفاة الأب زادت المشاكل بين “منى” وأمها واستحالت الحياة بينهما، وكان لأمها خالة تعيش في محافظة الإسماعيلية، لم تنجب وتعتبر فى مقام الجدة لمنى، فطلبت من منى أن تحضر هي وابنها للإقامة معها فضًا للمنازعات التى لاتنتهي بينها وبين الأم خاصة بعد وفاة الأب، وبالفعل ذهبت منى وابنها للإقامة عند خالة أمها الحاجة “زينب” تلك السيدة الطيبة المسنة البشوشة الحافظة لكتاب الله والتى تؤدى الفرائض بانتظام
.. لاحظت الحاجة “زينب” ابتعاد “منى” عن الله، فكانت تختلي بها كثيرًا وتحثها على الصلاة والتقرب إلى الله، وكانت ودائمة النصح لها، لكنها للأسف لم تكن تسمع لها، بل كانت سعيدة بأنها تحررت من قيود أمها وأصبحت تخرج وتتأخر كما يحلوا لها، ولم تكن تهتم برعاية ابنها الوحيد الذى ظلم في هذه الدنيا، فلم يرَ والده منذ أن طلق أمه، وكان يعتبر جده هو والده .. وكانت أمه مستهترة لاتهتم برعايته، وبعد أن كان في مدرسة لغات وهو في بيت جده تم تحويله إلى مدرسة حكومية بعد أن توفي الجد، فمن أين لها بالمال لتسدد مصاريف المدرسة الخاصة الباهظة.
.. كانت أغلب الوقت خارج البيت، إلى أن جاء يوم مرض فيه ابنها وتعرض لأزمة من أزماته الصحية التي كان يعانى منها ولم تكن “منى” فى البيت، ولم تتمكن الحاجة “زينب” من اسعافه وحاول الجيران البحث عن أمه دون جدوى، وتطوع أحد السكان بالاتصال بالإسعاف، ولكن حين حضرت سيارة الإسعاف كان الأوان قد فات .. فارق الطفل الحياة وأراحه الله من تلك الأم المستهترة والأب الظالم.
عادت “منى” من الخارج لتجد ابنها ممدد على الفراش أزرق اللون قد فارق الحياة، فاصيبت بصدمة وظلت تصرخ فى هستيرية: أنا اللى قتلته .. أنا اللي قتلته.. ولكن بماذا ينفع وقتها الندم فقد مات الولد وفقدته “منى” المستهترة عقابًا من الله إلى الأبد.
.. ولكن ماذا سيحدث هل ستكون بداية الهداية ام بداية النهاية لمنى.. وماذا حدث لأمجد جراء أفعاله .. وهل ستظل أمل هي من تتحمل أعباء أخطائهم ونزواتهم … هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة تابعونا …