أخبار عاجلة
الرئيسية / الجاليات / لقاء مع ميت – الجزء الثامن – بقلم إيمان وهمان

لقاء مع ميت – الجزء الثامن – بقلم إيمان وهمان

 

مرت السنين وتساقطت شجرة العائلة و”أمل” تجد وتجتهد في العناية بأسرتها وخاصة زوجها التى كانت تتمنى دائما أن تستقر الحياة بينهما ويعيشا في هدوء وسلام.

كما كانت “أمل” تحرص على الاتصال بأخيها “أمجد” باستمرار فلم يتبق لها غيره .. وفي كل مرة تتحدث معه يطلب منها أن تدعو له ولأولاده .. فقد أصبح إنسانًا ملتزمًا يؤدي فرائض الله، حتي إنه أدى فريضة الحج ثلاث مرات، ووهب منهم لوالديه، كما اعتمر لأخته “منى” ويظل يتصدق عليهم بين الحين والآخر، وهو من الأسباب أن بارك له الله في أولاده .. تخرج أكبر أولادها من إحدى كبرى جامعات كندا، وتخصص في الهندسة أما ولديه التوأم فلا يزالا في مراحل التعليم الجامعي وقد اختارا دراسة الطب

.. وعلى الجانب الآخر أنهى ابن “أمل” البكر دراسته في الجامعة الأمريكية وأرسلته الجامعة في منحة دراسية إلى أمريكا وفي أعرق جامعاتها “هارفرد” .. أما ابنها الأوسط فقد أنهى دراسته في الكلية الفنية العسكرية وأصبح ضابط مهندس وكان طوال فترة دراسته من النوابغ، وحظي بإعجاب قادته ومدرسيه سواء في أثناء الدراسة أو بعد التخرج.

أصبحت العلاقة بين “أمل” وزوجها أكثر هدوءا ودفئًا، وزال جبل الثلج الذي كان يحيط بتلك العلاقة، وتحسنت حالتهم المادية كثيرا وحرصت “أمل” على تجديد أثاث البيت، وكذلك شراء سيارة حديثة، وفي ظل هذا كله ومشاغل الحياة، كانت تحرص باستمرا على زيارة قبر أختها “منى” في فترات متقاربة، وتجتهد في الدعاء لها والتصدق عليها وعلى والديها وظلت أختها تزورها بين الحين والآخر، وتقص لها بالتفصيل ما تراه في الحياة الأخرى، وعن الشخصيات الشهيرة التى تقابلها من فنانين وسياسيين ورياضيين، وكانت تعلم ولع “أمل” بشخصية الرئيس جمال عبد الناصر ، فحرصت على أن تخبرها أنها رأته في أحد المرات يلتف حوله جمعٌ كثير.

.. وفي كل مرة تزور “منى” أختها “أمل”  تحرص على أن تذكرها ألّا تخبر أحدًا عما يحدث بينهما، أوعما تقصه لها من أخبار عمن رحلوا عن عالمهم .

.. في يوم من الأيام حضر “عماد” ابنها الأصغر في إجازة، فقد كان يخدم في الجيش في منطقة سيناء مع كتيبته، وصارحها بأنه يريد أن يتزوج من فتاة هى أخت صديقه المقرب، وهو معه أيضًا في نفس الموقع، وأنه يريد منها أن تخبر والده، وأن تحدد ميعادًا للذهاب معه لخطبة الفتاة التى يتمناها .. فرحت “أمل” وعانقت ابنها “عماد”،  فقد كانت تحلم دائما باليوم الذي ترى فيه أولادها يتزوجون ، وتتشوق لاستقبال الأحفاد الذين تعتبرهم مكافأة آخر العمر، وعوضًا عن تعب وجهد السنين .. وبالفعل تم كل شىء بسرعة، فأجازة عماد قصيرة، وهو يتمنى أن يتم كل شىء سريعًا .. كانت شيرين فتاة جميلة ورقيقة، ومن عائلة محترمة، والدها لواء في الجيش وأمها طبيبة، وهى الأخرى في السنة النهائية بكلية طب الأسنان، وأخوها الوحيد ملازم في الجيش مع عماد .. اتصلت “أمل” بأمجد لتخبره بميعاد الخطوبة، وتطلب منه الحضور ولكنه اعتذر بسبب ضغوط العمل، ووعدها بالحضور في الفرح، وأرسل إليها مبلغًا من المال كهدية لعماد تساعده في بناء حياته الأسرية الجديدة.

كذلك لم يستطع ابنها الأكبر”عمر” الحضور والمشاركة في حفل الخطوبة، بسبب الدراسة والامتحانات

.. عاد “عماد” إلى كتيبته وهو سعيد بأنه حقق حلمه بالارتباط بمن اختارها قلبه، وكان يحرص على الاتصال بأمه يوميا فجرًا حتى يطمئنها عليه، وكان يطلب منها دائما أن تدعو له، ولكنه كان يُخفي عليها دائما أنه يخرج في عمليات خاصة حتى لا يشعرها بالقلق، فهو يعلم إلى أى مدى تحبه أمه وتخاف عليه، وعلى أخيه عمر، وفي أحد الأيام كعادته قبل الخروج لمأمورية سرية، اتصل عماد بأمه بعد صلاة الفجر كعادته، فهو يعلم أن أمه تحرص على صلاة الفجر دائما.. اطمئن منها على والده وأخيه وسألها الدعاء له كعادته، وأوصاها أن تبلغ سلامه لأخيه عمر وتسأله رأيه في العروس التي اختارها وفي نهاية المكالمة أخبرها بأنه سيحضر في الإجازة، وطلب منها أن تجهز له بعض أنواع الطعام التي يحبها.. أحست “أمل” من صوت عماد أنه يُخفي عليها شيئًا، فسألته عما به فضحك وقال أبدًا انا بخير، لكنها كانت تشعر بشىء ما بداخلها يثير قلقها .. حدثت زوجها بظنونها فقال لها اطمئنى إن الله خير حافظ وهو أرحم الراحمين .. وطلب منها أن تكثر من الدعاء له وطمئنها أن كل شىء على مايرام، لكنها كانت تتمتم أن قلب الام لايخطئ .. مر اليوم عليها ثقيلا بطيئا فقد كانت قلقة طوال اليوم، وحينما أخلدت للنوم، أتت إليها أختها وكانت تبتسم لها كعادتها، ولكن “أمل” صارحت “منى” بأنها قلقة على ابنها “عماد” ولديها إحساس غريب لاتجد له تفسيرا .. لكن “منى” طمئنتها وأخبرتها أن عماد سيسعد كما لم يسعد أحد من قبل، وسوف يزف في موكب عظيم وستحضر هي لزفافه وكذلك سيأتى “أمجد” من كندا ليحضر زفاف “عماد “.

استيقظت “أمل” كعادتها قبل صلاة الفجر .. صلت ودعت ربها كثيرا أن يحفظ ابنها وكل زملائه ويرده لها سالما .. لم يتصل بها عماد كعادته بعد صلاة الفجر فازداد قلقها ، وكاد أن ينخلع قلبها من مكانه، وازدادت سرعة ضربات القلب حتى خيل لها انها تسمع دقات قلبها .. ذهبت إلى زوجها تحدثه بمخاوفها فقال لها استعيذى بالله سوف اتصل به لاطمئن عليه رغم أن عماد لايحب أن يتصل به احد في أثناء عمله .. حاول زوجها ان يتصل بابنه “عماد” لكن تليفونه لم يكن متاحًا مرت ساعتان من القلق والترقب، بعدها رن جرس الباب واذا بضابط برتبة مقدم من الجيش يريد أن يتحدث مع والده على انفراد، وكان يبدو على ملامحه الحزن الشديد، وفي عجالة أخبره أن ابنه “عماد استشهد” هو ومجموعة من أفراد الكتيبة اليوم، وطلب منه الحضور لاستلام الشهيد، وتحضير مراسم الجنازة التى سيحضرها جمع من رجال الجيش والمسؤولين في الدولة، سمعت “أمل” حديث الضابط ، ولم تدر ماذا حدث لها ، شعرت أن الدنيا تلف وتدور من حولها، وبعد ان أفاقت رأت الجيران كلهم ملتفين حولها، صرخت في وجه زوجها وطلبت منه ان تذهب معه لتلقى نظرة الوداع على ابنها، وأصرت على طلبها فاذعن الأب الحزين لطلبها، واصطحبها إلى المستشفى لتلقي نظرة الوداع والغريب أنها شاهدت “منى” أختها تقف بجانبها وتحاول ان تطمئنها على “عماد”، وأحست بها كأنها تربت على كَتِفِها.

.. وهكذا تم توصيل “عماد” إلى مثواه الأخير ، وعادت “أمل” إلى بيتها وألقت بنفسها فوق سرير “عماد” وهى تحتضن بدلته العسكرية وتنتحب ولكن دون صوت.. كان المنزل مليئًا بالجيران والأصدقاء يحاولون جاهدين التخفيف من ألام الأسرة المنكوبة في وفاة ابنهم

.. علم “أمجد” بالخبر فأسرع بالنزول ليكون بجانب أخته في هذا الموقف العصيب كما علم “عمر” من أصدقائه ووالده بما حدث لأخيه فأسرع هو الآخر بالعودة ليكون بجوار والديه يهون عليهما وقع الصدمة ، في الوقت الذي كان قلبه يعتصر ألمًا على فراق أخيه .. التقت “أمل” بأحيها “أمجد”، فألقت بنفسها بين ذراعيه وهى تبكي على فراق ابنها بكاءً حارًا شديدًا.. لم يتمالك “أمجد” نفسه وأخذ يبكي ولايدري ماذا يقول لها ليهون عليها لوعة الفراق.

.. مرت عشرة أيام و”أمجد” بجوار “أمل” لايريد أن يفارقها، كان يحاول أن يخفف عنها، وكان يصطحبها يوميا لزيارة قبر “عماد” ، وكان يصحب معه ابنها “عمر” حتى يهونا عليها ويخففا عليها أحزانها

.. تحدث “أمجد” إلى أخته “أمل” وأخبرها أن عليه أن يعود إلى عمله لأن لديه مهام هناك، وأيضا طلب من “عمر” أن يستعد هو الآخر للعودة إلى دراسته في “أمريكا”.

.. طلبت “أمل” من أخيها أن يبقى معها يومًا آخر، وأخبرته أن “منى” أتت إليها قبل استشهاد “عماد”، وأخبرتها أن عماد سوف يزف، وأن “أمجد” سيأتي ليحضر زفافه .. الآن فهمت مقصدها، وطلبت من “أمجد” ان يذهبا سويا لزيارة قبر “منى” قبل أن يرحل، فهي تشتاق إليه، وبالفعل ذهبا سويًا لزيارة قبر “منى” وقاما بقراءة القرآن وتصدق “أمجد” على روح أخته، وقال لأمل “أشعر بها وكأنها معنا مثل سابق عهدنا” .. عادا سويًا إلى البيت، وأمضى اليوم مع “أمل” وزوجها وأخذ يلقي بعض الوصايا على زوج أخته، وطلب منه أن يهتم بها ويخفف عنها، بالرغم من أن الاب في أشد حالات الحزن ولكنه كان أكثر تماسكا من “أمل”.

.. تركهم “أمجد” وذهب ليبيت في بيت العائلة كعادته، وعلى خلاف العادة نام في فراش أخته “منى”، وكان يمني نفسه بلقائها مثلما تفعل مع “أمل”.. وبالفعل أخلد للنوم وكان مجهدًا من شدة الحزن، فنام نوما عميقا، الى أن أحس كأن أحدًا يربت على كتفه، أفاق من نومه ليفاجأ بأخته “منى” تبتسم له في ود، وشكرته على زيارته لها في قبرها، وأن هذه الزيارة اسعدتها كثيرا، فحدثها بخوفه الشديد على “أمل” من شدة الحزن على ابنها فطمئنته وأخبرته ان “أمل” ستكون سعيدة من الغد، ولن ترى دموعها أبدا، وطلبت منه ألّا ينقطع عن زيارتها

.. استيقظ “أمجد” على رنين التليفون والذى ظل يرن بالحاح ودون توقف، نظر في ساعته فوجدها الخامسة صباحًا ارتجف من الخوف، تساءل من سيطلبه في تلك الساعة المبكرة؟ .. كان صوت زوج أخته يبكي بشدة وأخبره أنه ذهب ليوقظ “أمل” لصلاة الفجر لكنها لم تجبه، وحاول ذلك مرارًا، ولكنه أيقن أخيرًا أن روحها قد صعدت إلى بارئها بجوار ابنها فلم تحتمل فراق ابنها وبعده عنها.

.. فهم “أمجد” مغزى كلام “منى” له ان “أمل” ستصبح سعيدة في الغد .. نعم ستكون سعيدة بلقاء ابنها وتؤنس وحدته .. .. انتهت مراسم العزاء وذهب كل إلى حاله إلا “أمجد”، فقد ذهب إلى بيت العائلة ودخل للحجرة المخصصة لأختيه “أمل” و”منى”معا .

اختار “أمجد” أن يستلقي على فراش “أمل” وأطفا الأنوار في انتظار أن تأتى له “أمل” لتحكي له ماذا حدث لها بعد وفاتها على حسب الاتفاق الذي كان بينهم .

.. ترى هل ستأتى له “أمل” أم تاتى “أمل” و”منى” معا لتفيا بعهدهما له..تمت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *