أخبار عاجلة
الرئيسية / منوعات / في حضرة الطاهرة.. بيت السناري ودرب البهلوان وسبيل أم عباس.. دروب السالكين للمقام الزينبي

في حضرة الطاهرة.. بيت السناري ودرب البهلوان وسبيل أم عباس.. دروب السالكين للمقام الزينبي

«اخلع نعليك» فأنت فى حضرة الطاهرة، عندما تطأ قدماك الأرض أمام مسجدها الشريف، بعدما خرجت توًا من مقامها، وقرأت لها الفاتحة، وصليت ركعتى التحية للمسجد، ودعوت لكل من تذكرتهم، وطلبت حذاءك الذى خلعته قبل الدخول، من حارس المقام. «انظر حولك»، لتوقن أن روحانية المكان مازالت عالقة بملابسك، وأنك لن تستطيع مغادرة ميدان السيدة زينب بذات السهولة، التى دخلته بها.

ستظل تتلفت حولك، ربما تستطيع فهم جغرافيا المكان، صحيح أن كل الشوارع تحمل أسماء، لكن ليست جميعها تحمل حكايات، فهناك شوارع تحمل بين طياتها شخصيات وتاريخًا،  فتظل شاهدًا على القصص التي مرت بها الطرق والأرصفة، وتبقى البيوت والنوافذ فيها تطل على صفحات من الأوطان، ها هي القاهرة مدينة الألف حياة، كل من أتاها، لم يستطع تركها، فترك فيها ما يجعل أهلها يذكرونه على الدوام، وعلى الرغم من أن كل أحياء القاهرة القديمة تتمتع بالحكايات، لكن يظل حي السيدة زينب أكثرها حكيًا، ذلك الحي الشعبي الذى  يقع بين جنباته أكثر من أربعين أثرًا إسلاميًا وقبطيًا مسجلاً في المجلس الاعلى للآثار.

شاب من أصل بربرى يصل إلى بر المحروسة، بعدما ضاق به الحال فى دنقلة بالسودان، حيث ولد، قاصدًا رزقًا، ذلك الذى سمع عن وفرته فى مصر، يتجه إلى الوجه البحرى، وتحديدًا مدينة المنصورة، حيث عمل فى البداية بوابًا هناك، كان الشاب ذكيًا ونجيبًا، فاستطاع تعلم القراءة والكتابة، قرأ فى كل شيء، لكن أكثر ما استوقفه، كان كتب السحر والتنجيم، وبدأ بالفعل فى ممارسة هذه المهنة، التى تروج بضاعتها، فى كل زمان ومكان، حتى ذاع صيته بين العامة والخاصة.

كان الشاب يمتلك بجانب الذكاء والحيلة من الطموح ما يساعده على الوصول لأهدافه، كان وقتها عصر المماليك، فما كان منه إلا أن يصير واحدًا منهم، فغير وجهته وذهب إلى صعيد مصر، وحاول بكل الطرق أن يتصل بالأمير «مراد بك»، وكان له ما أراد، لكنه لم يكتف بذلك، فحاول تعلم اللغة التركية، وكعادته في تحقيق أهدافه، أتقنها كأهلها، وتوالت طموحات الشاب، فبعدما تعلم اللغة التركية، أخذ يحرر مكاتبات سيده، ويدير شئونه، لكن طموحه جعله طرفًا في المؤامرات والفتن، فما كان من سيده مراد بك الكبير إلا أن يأمر بقتله، فهرب الشاب، واستطاع بحيلته مرة أخرى، الدخول في معية الأمير حسين بك، وتقرب إليه حتى عينه الأخير محافظًا له، وهكذا سطع نجم الشاب، وزاد سلطانه فصار بمثابة لسان حال سيده، فتحدى قرارات ورغبات الأمراء بل صار يفعل ما تقتضيه مصالحه وهواه الشخصى.

وآن للرجل أن يسكن القاهرة مثل علية القوم فى المحروسة، فما كان منه إلا أن اختار أرضًا واسعة، يمر من أمامها خليج متصل بالنيل- هكذا كانت منطقة السيدة زينب في بدابات القرن الـ18-  ليبنى عليها منزلاً فخمًا، قام بصرف أموال طائلة عليه، مازال هذا البيت حتى اليوم علامة مميزة لحى السيدة زينب، هذا البيت هو بيت السنارى، وهذا الشاب هو «إبراهيم كتخدا السناري»  الشاب البربرى الذى جاء مصر فقيرًا مُعدمًا، فصار فيها أميرًا من الأمراء.

وفى جولة «الوفد» فى حي السيدة زينب، كان لنا وقفة عند بيت السنارى، ولكى تصل هناك، ابحث أولاً عن سبيل السلطان مصطفى، لتدلف من جانبه لحارة حسن الكاشف، والتى ستقودك فى نهايتها، لحارة غير نافذة تعرف بحارة «مونج»، لتجد بيت السنارى أمامك.

هذا البيت الذى سكنه إبراهيم كتخدا السناري عام 1749، كانت تملأه الحياة والجوارى والخدم والحشم، ولكن ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع، فظل السنارى يسكن هذا المنزل حتى عام 1801م، حيث ُقتِل في الإسكندرية مع غيره من أمراء المماليك، الذين كان حسين باشا القبطان العثماني قد طلبهم للحضور إليه، فلما حضروا قتلهم جميعًا ودُفِنوا بالإسكندرية.

عندما تترك بيت السنارى، وتخرج لميدان السيدة زينب، ستجد أن شارع العتريس ودرب البهلوان ملاصقان للمسجد الزينبى من الناحية الشرقية، ومن ناحية الغرب سيواجهك شارع السد، والذى تبدو من اسمه علاقته بالقناطر التى احتلت الشارع  قديمًا، والذى يفترشه باعة لمختلف السلع الآن، بينما يسمى الشارع المواجه للمسجد، شارع بورسعيد والذي كان يسمى بشارع الخليج المصري، حيث كان يمر به فرع النيل الذي تم ردمه.

وشارع العتريس الذى يحتل الناحية الشرقية للمسجد، شارع ضيق للغاية، لا يزيد عرضه على متر واحد، يشبه إلى حد كبير «زنقة الستات» فى الإسكندرية، الشارع تراص على جانبيه الباعة بشكل متلاصق جدًا، جميعهم يبيعون الأقمشة والملابس المنزلية الجاهزة، عندما تصل لمنتصف الشارع تقريبًا، تراه يتفرع لزقاقين، لا يتعسان عن أوله أبداً، وهنا يبدأ درب البهلوان، الذى تنتشر فيه محلات العطارة.

فى بداية الدرب، جلس أمام محله الصغير، غير المهيأ لبيع أى بضاعة، فإذا نظرت داخل المحل، فى محاولة لمعرفة ماذا يبيع هذا الرجل، فلن يسعفك نظرك بإجابة، فتتوجه إليه وتسأله: بتبيع إيه يا حاج؟ فيجيب: بنبيع زبدة.

عم أحمد عبدالمجيد رجل فى العقد السابع من عمره، يذكر أن هذا المحل كان قد استأجره والده عام 1939، لبيع الزبدة، ويشير إلى أن هذا الشارع فى البداية كان لبيع الخضار، ثم بدأ أحد أصحاب المحلات ببيع الأقمشة والملابس الجاهزة، من بعدها بدأ كل أصحاب المحلات يبدلون تجارتهم من الخضار إلى الملابس، حتى صار الشارع بهذا الشكل، وأصبح حى السيدة زينب بشكل عام من أشهر أحياء بيع الملابس الشعبية، ويقول عم عبدالمجيد: هذا التغيير أثر على بضاعتى كثيرًا، وكثيرون حاولوا شراء المحل مني كى يحولوه لمحل ملابس، لكنى دائمًا أرفض، وسأظل أبيع الزبدة مثل أبى حتى آخر يوم فى عمرى، أما عن الأسعار فيقول عم عبدالمجيد: كان سعر أوقية الزبدة خمسة وسبعين قرشًا، بينما الكيلو الآن بمائة جنيه.

ربما تستمد منطقة السيدة زينب روحانيتها من مسجد أم هاشم، بينما تستمد تاريخها وتراثها الشعبى من أماكن أثرية  كثيرة حفلت بها المنطقة، مثل مسجد «أحمد بن طولون» ثالث مسجد بنى فى مصر، وأكبر المساجد في إفريقيا، وخلف جامع ابن طولون، يقع منزل محمد بن الحاج سالم الجزار، والمعروف حاليًا بمتحف جاير أندرسون، يتكون المتحف من بيتين، هما بيت محمد بن الحاج سالم، وبيت السيدة آمنة بنت سالم، وقد تم الربط بينهما بقنطرة.

المساجد لا تنتهى فى هذا الحى، فإذا دخلت شارع عبدالمجيد اللبان، فستجد فيه مسجد «الأمير لاجين السيفى»، ويعتبر هذا المسجد من المساجد الصغيرة الحجم، إذ يبلغ طوله 25 مترًا، وعرضه 21 مترًا تقريبًا، كما انتشر فى منطقة السيدة زينب عدد كبير من الأسبلة، مثل سبيل أم عباس وسبيل الست صالحة وسبيل بشير أغا.

استطاع الحى التاريخى أن يداعب مخيلة الكُتاب والمبدعين على مدار إبداعهم، وكانت البداية مع رواية «قنديل أم هاشم» للكاتب الكبير يحيى حقى، والتى تم إنتاجها سينمائيًا في عام 1968م بسيناريو للمبدع صبري موسى وإخراج كمال عطية وبطولة شكري سرحان.

كذلك رواية «نقطة نور»  لبهاء طاهر، والتي يعرض من خلالها حكاية أسرة مصرية تقطن حي السيدة زينب في فترة السبعينيات.

أما عن آخر من اهتم بجزئية ثرية من هذا المكان، فكان الدكتور عمار علي حسن، الذى فاز بجائزة الأديب السوداني الكبير «الطيب صالح» العالمية للإبداع في مجال الرواية عن روايته «بيت السناري».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *