“ابن بطوطة لأدب الرحلات”، هي أحدث جائزة يفوز بها الكاتب المصري عمار علي حسن، هو الحائز عدداً كبيراً من الجوائز الأدبية في مجالي الرواية والقصة القصيرة مثل جائزة الطيب صالح وجائزة اتحاد كتاب مصر، إضافة إلى جوائز أخرى في العلوم الإنسانية مثل جائزة الدولة للتفوق وجائزة الشيخ زايد للكتاب.
هل كان عمّار يتوقع أن يحوز كتابه “ألف نافذة لغرفة واحدة” جائزة ابن بطوطة المخصصة لأدب الرحلة؟ عن هذا السؤال أجاب: “تتابعت رحلاتي وكان من الطبيعي أن أفكر يوماً في كتابتها. وحين بدأت الكتابة هذه، لم تكن الجائزة هي الهدف، فنحن نكتب لأسباب أخرى غير الجوائز، واخترنا هذه الطريق قبل أن تكون هناك جوائز على النحو الذي نشهده الآن، وليس لدينا ترف الإقلاع عن المضي فيها. بالنسبة إليّ لو توقفت عن الكتابة سأموت، ولا أتخيل أن يحدث هذا التوقف إلا بالموت فعلاً. الكتابة اختيار ورسالة وانفعال وشفاء”.
وماذا يُمكن أن يُضيف أدب الرحلات في ظلّ ثورة اتصالات تجعلنا نزور أيّ مكان ونعرف ما يحدث في أي بقعة في العالم، ونحن جالسون في أماكننا؟ وجّهنا هذا السؤال الى عمّار علي حسن، فأجاب مبتسماً: “لا يمكن في عصر الصورة وزمن المواطن الصحافي والعالم الذي صار حجرةً صغيرةً أن يأتي إليك من يصف المشاهد التي يراها، متكئاً على أنّ الأغلبية تتوسل بالكلمة المكتوبة كي ترى، فالصور صارت على قارعة الطريق، والوصف لم يعد له شأن كبير في عصر الجماهير الغفيرة، وأي شيء عن أولئك الذين يقطنون وراء البحار لم يعد بوسعه أن يلفت انتباه الذين رأوا كل شيء في خرائط “غوغل” ومعلوماتها، وأفلام قصيرة مصورة من هنا وهناك، ومعلومات وصور وأفلام وشروح لا تتوقف على مواقع التواصل الاجتماعي على اختلاف أنواعها، تجعل السؤال يكبر في عين كلّ لبيب: ما الذي تبقى لوصفه بعدما أصبح في وسع كل أحد أن يجوب المدن كلها وهو جالس في مكانه؟ عليه فقط أن يحرك إصبعه فوق أزرّة هاتفه الجوال أو حاسوبه النقال، أو حتى يجلس ساعات قليلة أمام قنوات متلفزة مخصصة كي يكون بوسعه تعرية العالم أو شرحه“.
.jpeg)
ولهذا نجد أنّ رحلة عمّار تنتقل من الطبيعة إلى الطبائع، بحيث ركز في كتابه على خصائص البشر وطباعهم، شرقاً وغرباً، وبحسب البلاد التي زارها، فيقول: “قديماً كان لدى الكتّاب فرص واسعة لزيارة بلدان عدة، لا تُتاح لغيرهم، ولذا كان من واجبهم أن يصفوا للناس الطبيعة والشوارع والبنايات، أما الآن فأعتقد أننا بحاجة إلى النظر إلى أمر آخر، وهو طبائع الناس أيضاً. وعموما هناك رحلات قديمة جداً، سواء في تاريخ العرب أو غيرهم، لم تكن تهمل هذا الأمر بالطبع“.
يتوزّع الكتاب الصادر عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت بالتعاون مع “دار السويدي للنشر” عناوين هي: “مدينة الجن والملائكة”، “رجع بعيد”، “المطر الساطع”، “ضباب وألفة”، “ماكينات لها أرواح”، “لسان وتراب”. وهي كلّها عن رحلات الكاتب إلى العديد من الدولة العربية، إضافة إلى إنكلترا وألمانيا وفرنسا وتركيا وأندونيسيا وغيرها.
يبدأ الكتاب بعبارات دالة: “في المطارات، لاسيما في الليالي الباردة أو الصباحات الغائمة، بوسعك أن تدرك من وجوه الذين يجلسون في انتظار إقلاع طائرة، أو يمضون إليها مسرعين، من فيهم يسعى وراء معرفة، وذلك الذي يهرب من واقع مرير إلى آخر ربما يكون أشدّ مرارة، دون أن يعلم، وقد تدرك أيضاً أولئك الذين يمشون في ثقةٍ نحو أعمالٍ تنتظرهم في بلادٍ هناك، وغيرهم ممن يسافرون إلى فرص غير سانحة، لكنّ الأمل يحدوهم في اقتناصها”.

هكذا يخبرنا الكاتب أنّ رحلته ذات طابع معرفي، ويعبّر هو عن ذلك صراحةً بالقول: “أنا واحد من هؤلاء الذين إن تعددت أسباب السفر لديهم، فإنّ لهم قصداً آخر، يشغلهم منذ أن تصلهم تأشيرة الدخول وحتى يسمعون صوت المضيفة وهي تقول: “اقتربنا من الهبوط إلى مطار كذا”. لا يشغلهم أي مطار هو، فهنا بشر، جاءوا ليعرفوا صفاتهم وسماتهم، كي يضاهوا ما يلقونه بالذي استقرّ في رؤوسهم عبر سنوات من الثرثرة التي تجري على الألسن، أو تتهادى على الورق، كلمات في سطور. وما إن تحط قدمايَ في المطار الغريب حتى أشعر بألفة عجيبة، وأقول لنفسي دوماً: إنها أرض الله التي أورثها للناس”.
من هذه الكلمات، يبدو أن عمار قد استفاد في تأليف كتابه هذا من كونه باحثاً في علم الاجتماع السياسي، له في هذا المجال نحو عشرين كتاباً، إلى جانب كونه أديباً، له سبعة وعشرون كتاباً في هذا المجال.
فالفكرة التي يحملها الكتاب تضع قدماً في الأدب وأخرى في الاجتماع، وتمسّ أيضاً علم السياسة وعلم النفس. وكثير من أدب الرحلات يحمل هذا الخليط بالفعل.
هكذا يؤكد عمّار في كتابه على المقولة الراسخة: “كلنا لآدم، وآدم من تراب”، ويقول: “في رحلاتي أترك نفسي للتجربة التي تعلمني أنّ ما دار في خلدي لم يكن سوى الحقيقة، أو هو القريب منها، بعيداً عن ريح السموم التي هبت على عقول ونفوس مغلقة فجعلتها تدرك وهماً أن الناس في اختلاف، هناك من يغذيه حتى يتسع ليصبح شقاقاً فصراعاً ضارياً، وقلة تدرك أن هذا تنوع خلاق، يثري الحياة”.
إنه هنا يسلك سبيل المسافر الواعي الذي لا تشغله المتعة العابرة، ولا يقيم حوله وهو هناك في غربته الطارئة أو المؤقتة شرنقة من الخوف والتردد والتبلد والاستغناء الزائف، إنما يجدها فرصة للتأمل والفهم وهو يعاين الأماكن التي تمضي فيها حياة من سافر إليهم، ليلتقط في ذكاء تأثيرها عليهم. وحين سألته عن خلاصات الرحلة قال: “من يتأمل أحوال الناس وطبائعهم سيكتشف دون عناء أن همومهم متشابهة، بغض النظر عن التفاوت في الفقر والغنى، وفي القهر والحرية، وفي الألوان والأعراق. فالإنسان هو الإنسان، أسمر كان أم أبيض أو أصفر، لديه قضية تشغله وتؤرقه أو يعيش لامبالياً هائماً على وجهه لا يلوي على شيء، فكل هذا قد يصنع ألواناً من اختلاف ليس من بينها بالقطع ما يمحو جوهر النفس الإنسانية وطبائعها“. ويتابع: “هذا ما يلفت نظري دوماً في كل مكان سافرت إليه، أنظر إلى الناس مليّاً، وتشتعل الأسئلة في رأسي، عما يفعله الإنسان من أجل تحسن وضعه في الحياة ومن قبلها، وجوده ككاتب”.