في قلب المشرق العربي حيث تتشابك خيوط التاريخ مع أصداء الحاضر، تقبع سوريا كلوحة فنية جميلة مزقتها يد الزمن، لكنها لم تفقد رونقها وجمالها، فبلاد الشام، مهد الثقافة والفكر ومسرح الملاحم، تروي اليوم قصة مختلفة؛ قصة صراع وألم، صمود وأمل يتسلل عبر ارادة شعب تحدى الموت بصبر وبسالة وظفر.
حاضر سوريا واستشراف مستقبلها يتطلب نظرة متأنية تجمع بين فهم الجذور واستيعاب التحديات، مع لمحة من التفاؤل الحذر الذي يليق ببلد عانى الكثير من الويلات لكنه يأبى الانكسار ويتحدى الزمن.
سوريا اليوم ليست مجرد رقعة جغرافية، بل مسرح إنساني يعكس أعمق معاني الالم وتناقضات العصر وصراعات الفكر والمصالح بين الدول، فمنذ اندلاع الثورة عام 2011، تحولت البلاد الى ساحة صراع بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، تاركة وراءها شعب يئن تحت وطأة الحرب والنزوح والمجهول ومدن كانت يوماً رموزاً للتعددية والازدهار الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، كحلب ودمشق وحمص، وأصبحت الان شاهدة على الدمار والخراب حيث تقاوم أطلالها لتحكي قصة ما كانت عليه وما مرَّ عليها..
التحديات التي تواجه سوريا متعددة الأوجه، تتمثل بالأزمة الإنسانية التي خلّفت ملايين اللاجئين والنازحين، والاقتصاد المتهالك الذي أثقلته العقوبات الدولية والحرب والفساد الداخلي، مما حوّل الحياة اليومية للسوريين الى معركة من أجل البقاء، والانقسام السياسي والاجتماعي الذي مزق النسيج الوطني، وباتت الولاءات العرقية والطائفية تتقدم على الهوية الوطنية.
واليوم تقف سوريا على مفترق طرق تاريخي، حيث تتشابك طبيعة الحكم الجديد مع التحديات الخارجية المتمثلة في العدوان الإسرائيلي، والداخلية المتمثلة في تمرد الأقليات، لتشكل معادلة معقدة تستدعي تحليلاً فكرياً عميقاً يتجاوز السطحيات إلى جذور الظواهر وتداعياتها، دعونا نمر بهذه الأبعاد الثلاثة بمنظور يستوعب الواقع ويستشرف المستقبل.
فعن طبيعة الحكم الجديد الذي ساهم في اسقاط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، ويحاول إعادة صياغة الهوية السياسية للبلاد بعد عقود من الفردية والظلم والاستبداد. فإن هذا النظام، يسعى إلى إقامة نموذج حكم مركزي يحمل مرجعية إسلامية ((معتدلة))، مع الحفاظ على مساحة للتعددية الاجتماعية كما يقول. وجاء الإعلان الدستوري مؤخراً ليحدد مرحلة انتقالية لخمس سنوات، يعكس طموحاً للاستقرار والتوازن بين القوى الفاعلة، لكنه يواجه تحدياً بنيوياً حقيقياً، وهو كيف يمكن لنظام ولد من رحم ثورة مسلحة وفكر اصولي أن يتحول إلى كيان سياسي يحتضن التنوع السوري دون أن ينزلق إلى الفوضى أو نوع من المركزية المطلقة؟
من الناحية الفكرية، يبدو ان الحكم الجديد عالقاً بين مثالية الثورة التي حملت شعارات العدالة والحرية، وواقعية المرحلة الانتقالية التي تتطلب تسويات مع قوى داخلية وخارجية، الاعتماد على دعم تركيا، على سبيل المثال، يمنح النظام قوة عسكرية وسياسية وقبولاً دولياً، لكنه يثير تساؤلات حول استقلاله في اتخاذ القرار، كما أن إصراره على مركزية الحكم قد يصطدم بمطالب الأقليات بنظام لامركزي، مما يضع أمامه اختباراً وجودياً: هل يستطيع بناء شرعية شاملة أم سيكون مجرد مرحلة انتقالية تسبق صراعاً جديداً قد يكون خطيراً؟
كما ان العدوان الإسرائيلي على سوريا، الذي تصاعد بشكل ملحوظ منذ سقوط نظام الأسد، ليس مجرد رد فعل أمني على ما جرى، انما هو استراتيجية مدروسة تهدف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية ومن المؤكد ان تكون سوريا في المقدمة بحكم موقعها الجيوسياسي . فالغارات المتكررة على مواقع عسكرية، كتلك التي في الكسوة وريف دمشق ومناطق عديدة في سوريا والتوغل في الجنوب السوري، تعكس رغبة إسرائيل في استغلال الفراغ العسكري لفرض واقع جديد، وان هذا العدوان يبدو قد تجاوز تدمير البنية التحتية العسكرية إلى محاولة منع أي نظام سوري جديد من استعادة السيادة الكاملة، خاصة في الجولان المحتل والمناطق المحيطة به.
بقراءة موضوعية فإن العدوان الاسرائيلي كجزء من استراتيجية طويلة الأمد لتفتيت سوريا وإضعافها، يسعى بكل ما يملك من ادوات محلية واقليمية ودولية الى ان لا تبقى سوريا دولةً مركزية موحدة، ويكشف عن رؤيته التي تهدف إلى تقسيم البلاد إلى كيانات ضعيفة تخدم المصالح الإسرائيلية . هذا النهج يستفيد من حالة الضعف الحالية للحكم الجديد، الذي يفتقر إلى جيش قوي وتحالفات دولية قادرة على ردع إسرائيل ناهيك عن السيولة في الموقف العربي تجاه اسرائيل وغطرستها سواءً في سوريا او فلسطين او لبنان او غيرها. لكن السؤال الأعمق هو: هل يمكن لإسرائيل أن تحقق هذا الهدف دون رد فعل إقليمي، خاصة من تركيا التي ترى في سوريا الموحدة المتماسكة مصلحة استراتيجية؟
أما تمرد وعدم رضا الأقليات في سوريا، سواء الأكراد في الشمال الشرقي رغم الاتفاق مع السلطة المركزية أو الدروز في السويداء أو العلويين في الساحل، فإنه ليس بظاهرة عابرة، بل تعبير عن أزمة هوية وطنية تفاقمت عبر عقود من الزمن، ان هذه التمردات، التي تصاعدت تعكس شعوراً بالتهميش التاريخي مما يجعلها ترفض أي حكم مركزي لا يراعي الخصوصيات الثقافية والسياسية لهذه الفئات. فالأكراد مثلاً، يشعرون بالحيف التاريخي الذي الحقه بهم نظام الاسد بحرمانهم من ابسط حقوق المواطنة، وانهم بدعم أمريكي يسعون إلى نوع من الإدارة الذاتية، بينما يطالب الدروز بنظام لامركزي يحمي هويتهم الدينية والاجتماعية، متخلين عن مفهوم التعايش المشترك كمواطنين سوريين لهم حقوق وعليهم واجبات .. لذا من الناحية الفكرية، إن هذا التوجه يمثل تحدياً وجودياً لفكرة الدولة الوطنية في سوريا .. فالنظام الجديد، الذي يراهن على مركزية الحكم كوسيلة للاستقرار، قد يجد نفسه أمام خيارين: إما القمع العسكري الذي سيؤجج الصراع ويعزز التدخل الخارجي، أو التفاوض على نموذج حكم يوازن بين الوحدة والتنوع، والخيار الثاني يتطلب رؤية سياسية ناضجة وثقة متبادلة، تفتقر لها فئات الشعب في سوريا حالياً في ظل الجراح المفتوحة والاستقطاب المناطقي الحاد وتأثير العوامل الخارجية.
إن العلاقة بين هذه الأبعاد الثلاثة – طبيعة الحكم، العدوان الإسرائيلي، وتمرد الأقليات – تشكل ديناميكية متشابكة تحدد مصير سوريا، فالحكم الجديد يواجه اختباراً مزدوجاً: داخلياً من خلال إثبات قدرته على احتواء الأقليات وبناء نظام وطني متنوع عادل، وخارجياً عبر مواجهة العدوان الإسرائيلي دون أن ينجر إلى حرب مبكرة قد تجهض المشروع الوطني وتدفع سوريا نحو المجهول. بينما تمثل الأقليات قوة ضغط قد تكون جسراً للاستقرار إذا أُحسن التعامل معها، أو قنبلة موقوتة إذا ما أُهملت.
مستقبل سوريا يتوقف على قدرة الحكم الجديد على ادارة الصراع وتوظيفه بإتجاه منطق الدولة الوطنية الجامعة، ودعماً إقليمياً ودولياً والضغط لانسحاب اسرائيل وكل الجيوش الأجنبية، بدون ذلك، قد تتحول سوريا إلى ساحة دائمة للصراعات، ويدفع شعبها ثمن طموحات الداخل وأطماع الخارج.
ورغم كل التحديات فإن سوريا ليست محكومة باليأس.
فالتاريخ يعلمنا أن الأمم التي مرت بمحن عظيمة غالباً ما تنهض من جديد، محمولة على إرادة شعوبها وذاكرتها الحضارية. فسوريا، بتراثها الذي يمتد لآلاف السنين، وفي جعبتها ما يكفي من العزيمة والإلهام، فإنها قادرة على بناء مستقبلاً أفضل مما كان.
مستقبل سوريا يبقى مشروطاً بقدرة أهلها على تجاوز جراح الماضي والعمل معاً نحو تحقيق عيش مشترك، وان لايكرروا تجربة العراق الظلامية القاسية التي خلّفها الاحتلال الامريكي ويديرها مرتزقة ايران وذيولها وميليشياتها، والقائمة على الفساد والافساد وسرقة الثروات والانتقام والاقصاء والاجتثاث والطائفية والشعوذة والتخلف والجهل والتجهيل والفقر والافقار والتبعية والجهر والافتخار بالخيانة .. وانهيار التعليم ومنظومة القيم الوطنية .. فالتعليم الذي كان يوماً فخر لسوريا كما العراق، يجب أن يعود إلى صدارة الأولويات في برنامج البناء، لأنه السلاح الأقوى لمواجهة الجهل والتطرف وفقدان الارادة، وأن عودة اللاجئين دون قيود، بما يحملونه من خبرات وطموحات، قد تكون انطلاقة النهضة الحقيقية التي تحتاجها سوريا، التي تنادي بصوت عالٍ ليس طلباً للنجدة فقط، بل إعلاناً عن وجودها وحقها في الحياة، حيث إن ما يواجهها ليس مجرد أزمة عابرة، بل مأساة عميقة تستحق التأمل والدعم .. ففي قلب كل امرأة وطفل مشرد، وأنين كل شيخ محتاج وشاب اصابه اليأس توجد بذرة أمل تنتظر من يرويها.. فلتكن سوريا، بكل ما اصابها، درساً للعالم في الصمود والبسالة والاباء.
ومن وسط هذا الظلام، تبقى روح السوريين النجباء من الشهداء والشهيدات نوراً ينير طريق الحياة لهذا الشعب العربي العزيز .. فالشعب الذي صمد أمام القنابل والجوع والشتات لم يفقد إرادته في الحياة بدءً من مخيمات اللجوء إلى شوارع المدن المدمرة، ستستمر الحياة في سوريا الثقافة والجمال محمولة على أكتاف أمهات علّمن أطفالهن القراءة تحت ضوء الشموع، وشباب مبدع طموح يحلمون بغدٍ أفضل رغم كل شيء.