بقلم : صلاح المختار
التاريخ السائد في العالم ليس (كتاب الحقائق) ،كما يظن البعض ،لان ما جرى فيه فعلا هو مزيج من الاكاذيب الملفقة بالكامل والحقائق وانصافها وحتى ربعها،يكتبها بشر تطغى عليهم مصالحهم وتكوينهم الاخلاقي وعقائدهم وحتى نزواتهم، لذلك نرى التاريخ المعروف متناقضا، فماهو صحيح في جهة ما هو كذب عند اخرين! وقد قيل(المنتصرون يكتبون التاريخ) وهذا صحيح الى حد ما وما يدعمه هو مانراه ونحن مازلنا احياء وكنا شهودا لاحداث القرن العشرين والعقدين الاولين من القرن الجديد ومع ذلك نجد ابواق الفرس مثلا تشوه الاحداث بطريقة غبية وصلت حد ادعاء ان ( ايران انتصرت على العراق في حرب الثمانية اعوام) مع ان خميني كان على وشك ان يبكي دما وهو يقول (اقبل بوقف اطلاق النار كما لو انني اتجرع السم الزعاف ) فمن يقول ذلك غير المهزوم وبذل ايضا؟بل وصلت الوقاحة بنغول الفرس حد نسب المقاومة العراقية للميليشيات الايرانية رغم انها كانت الاداة الرئيسة للغزو الامريكي للعراق وعملت كمجرد ادلاء وقتلة توجههم المخابرات الامريكية في تدمير وتثبيت اركان الغزاة وتصفية الاف المقاومين له! كما نرى الصهاينة يعيدون كتابة تاريخ فلسطين ويدسون الروايات الصهيونية الاسطورية والملفقة لتطغى عليه فنرى كل شيء اصله يهودي وان الفلسطيني طارئ بل مغتصب!
ما حصل بين ارمينيا واذربيجان مهم جدا بالنسبة لنا نحن العرب الذين نواجه اخطر مرحلة في تاريخنا حيث تتكالب علينا قوى الشر كلها لذلك فنحن بحاجة ماسة للدروس التي تساعدنا على حماية حقوقنا من الضياع ومشكلة ناغورني كاراباخ فيها دورس علينا الاستفادة منها بتسليط الاضواء عليها:
1-في عشرينات القرن الماضي عندما اراد ستالين تذويب الهويات القومية داخل الاتحاد السوفيتي قام بتفريق سكان بعض القوميات ونقلهم الى اماكن اخرى غير وطنهم واسكانهم بصورة متداخلة مع قوميات اخرى فوطّن ارمن في اذربيجان،وعندما ضعف الاتحاد السوفيتي وبدأ بالتفكك في زمن غورباتشوف اشتعلت الحرب في عام 1992 بين الاذريين والارمن لان اصل ملكية المكان بقيت نارا تحت الرماد وانتصرت ارمينيا وفرضت الامر الواقع على اذربيجان بأبقاء ناغورني كاراباخ للارمن فيها لان ارمينيا كانت مدعومة غربيا وروسيا والسبب هو اوربية ارمينيا ومسيحيتها،بينما كانت اذربيجان المسلمة ذات الاغلبية الشيعية شبه معزولة دينيا فلم يدعمها العالم الاسلامي ولا هي كانت تملك القوة الكافية لتحقيق هدفها، لذلك لم تكتفي ارمينيا بابقاء ناغورني كاراباخ تحت سيطرتها بل احتلت اراض اذرية جديدة !
2-وكان احد اهم ما لفت الانظار بتساؤل عميق هو دعم اسرائيل الشرقية لارمينيا وليس اذربيجان رغم ان دستور ما يسمى ب(جمهوية ايران الاسلامية) في المادتين 152 و154 نص على ان واجبها هو الدفاع عن الشيعة في كل مكان، وكان ذلك الادعاء جوهر دعايتها المضللة التي بتأثيرها قامت باحتلالتها وتدخلاتها الاستعمارية في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغيرها ،لكنها لم تطبقه على اذربيجان رغم ان اغلب سكانها شيعة! مشكلة ناغورني كاراباخ سجلت احد اهم الادلة الحاسمة على كذب ادعاء نظام الملالي (الدفاع عن الشيعة في العالم وحمايتهم) وكان ذلك مدعاة للصدمة القاسية وسط شيعة اذربيجان وغيرهم من الشيعة الذين صدقوا طويلا الخدعة الفارسية.
3- والصراع الارمني -الاذري قومي الجوهر فالقومية اسبق تاريخيا من الدين وجاء الاخير ليضاف للهوية القومية فهو تكملة وضعت فوق القاعدة والاصل وهو الهوية القوميةـ وهذا يفضي الى ان القومية اقوى من الدين وهو ما اثبتته تجربة ناغورني كاراباخ كما سنرى،والاتحاد السوفيتي بايديولوجيته الاممية ورغم ضخامة عمليات نقل السكان والدمج القسري ومحاولة محو هويات القوميات غير الروسية، بقيت نار الحقوق القومية كامنة،وعندما بدأ الاتحاد السوفيتي بالتفكك انتعشت القوميات والهويات التي قمعت ووجدت في ذلك فرصتها للعودة للاصول وازالة القشرة التي فرضتها القوة وكانت تلك رسالة تؤكد بان الاصول القومية لايمكن محوها مهما قمعت، وكانت ناغورني كاراباخ شرارة حرب بين ارمينيا واذربيجان.
4- في الحرب الاخيرة اختلف الامر جذريا فقد دعمت تركيا السنية اذربيجان (الشيعية) بصورة شاملة وسجلت انتصارا ساحقا على ارمينيا واستعادت اراضيها المحتلة ووضعت اقليم ناغورني كاراباخ تحت سطوتها. وسط تواصل الدعم الايراني لارمينيا رغم محاولات طهران تمويهه، وهنا لم يعد ثمة شك في ان موقف اسرائيل الشرقية تجاه اي قضية تحدده المصالح القومية الفارسية،وليس اي شيء اخر مهما كان.
5- الدعم التركي لاذربيجان وهو السبب الاهم في انتصارها على ارمينيا دافعه الاساس هو الصلة القومية التركية بينهما ، فتغلبت لدى القوميين الترك تركية اذربيجان على (شيعيتها)، مثلما تغلبت لدى القوميين الفرس تركية اذربيجان على شيعيتها، فدعمت تركيا اذربيجان وغدرت بها اسرائيل الشرقية، وتكررت تلك الظاهرة في العراق : فالعراق ايضا مسلم لكنه عربي وليس من اصول تركية لهذا لم تتدخل تركيا لانقاذه من التفريس الذي يتم تحت غطاء تشيع صفوي، رغم انه جارها واقرب اليها جغرافيا بكثير من اذربيجان، ولا تدخلت لانقاذ اي شعب مسلم اخر من غير الاصول التركية، وتدخلها في سوريا هدفه الرسمي حماية الامن التركي من الارهاب وليس انقاذ الشعب السوري،وتكرار التجربة الميدانية في اذربيجان والعراق على الاقل اثبت ان الانتماء القومي هو المحرك الرئيس لكل من طهران وانقرة وليس الاسلام ولا التشيع او التسنن.تركيا تخطت الحاجز الطائفي في بقوة الانتماء القومي الواحد بينما عجزت طهران عن تغليب الهوية الطائفية لاذربيجان على تركيتها.
6-بعد الحرب الاولى بين البلدين ()1992 واكتشاف شيعة اذربيجان دعم اسرائيل الشرقية لارمينيا ضد بلدهم اخذت قناعة تنمو بينهم تؤكد بان شعار (حماية الشيعة في العالم) ما هو الا غطاء كاذب يستخدم لاخفاء المطامع القومية الفارسية في البلدان الاخرى، ولهذا تناقلت الوكالات والشبكات في عام 2017 وقبل الحرب الاخيرة معلومات تقول( انتشر في الآونة الأخير حديث، بين الأوساط الأذربيجانية، بشأن احتمالية تحويل سكان البلاد من غالبية شيعية إلى أغلبية سنية، لافتين إلى أن باكو ترغب بحدوث هذا التحول حتى تصطف مع تركيا وكازاخستان، وليس مع إيران. وفي هذا السياق، يشير المحلل الأذري، علي عباسوف، من موقع ”On Kavkaz“ إلى أن مثل هذا التحول يحدث، بسبب التوترات بين الدول الإسلامية السنية وإيران الشيعية ورغبة باكو في تفضيل تركيا وكازاخستان على إيران.) المصدر: إرم نيوز:الثلاثاء 28 فبراير 2017.وهذا التطور انقلاب طائفي غير مسبوق منذ اسماعيل الصفوي، وسببه هو دعم تركيا السنية لاذربيجان رغم شيعيتها، والغدر الايراني بها رغم شيعيتها،الى ذلك فان تركيا البعيدة عن المنطقة دعمت اذربيجان ، بينما اسرائيل الشرقية المحاذية لها وقفت ضدها،وكان بامكانها دعم اذربيجان لمنع انتصار ارمينيا عليها، ويؤكد الكثير من المراقبين ان الانقلاب الطائفي بعد الحرب الثانية ازداد اتساعا ومرشح لتواصل الزيادة ردا على غدر نظام الملالي بشيعة اذربيجان.
وهذا التطور في البنية الطائفية لاذربيجان حدث مزلزل للنظام الايراني لانه لم يوجه لطمة لاكاذيبه ويفضحها فقط بل انه ايضا نبه العالم خصوصا الشيعة الى ان حماية الشيعة في العالم مجرد غطاء لانجاح الغزوات الايرانية للبلدان الاخرى، وهو ما تؤكده تجربة العراق حاليا حيث ان اسرائيل الشرقية لم تكتفي بالتنكيل بقسوة مفرطة بشيعة العراق وقتلت ميليشياتها بأوامر منها وبأشراف ضباط حرسها اكثر من الف عراقي في اقل من سنة وجرحت اكثر من 30 الف اخرين من المشاركين في انتفاضة تشرين واغلبهم شيعة، بل اكثر من ذلك انها سرقت قوت يومهم وجوعتهم واذلتهم ودمرت زراعتهم ونسفت معاملهم ولوثت مياههم..الخ،وما دفعها لارتكاب تلك الجرائم هو رعبها من انتصار الانتفاضة العراقية لانه يفضي لاقامة نظام وطني عراقي الهوية والجذور يطرد الاستعمار الايراني وهذا يسبب كارثة للمشروع القومي الفارسي العام بانتصار القومية العربية في العراق فضّحت بالشيعة العراقيين من اجل مصالحها القومية ، مثلما ضحت بشيعة اذربيجان ايضا خدمة لمصالحها القومية.
7- القومية في هذه البانوراما هي المحرك لكافة الاطراف والمقرر لخياراتها الاساسية وليس الطائفة وهذا ينطبق على شيعة العراق فهم عرب اقحاح ما يحركهم هو عروبتهم بصفتها هويتهم الرئيسة والطاغية،مثلما يتمسك الاذريون بقوميتهم اكثر من تمسكهم بشيعيتهم.والاتراك دعموا اذربيجان بدافع قوميتهم التركية وليس اسلامهم السني لانه لو كان الاسلام السني هو دافعها لامتنعت عن دعمها لانها شيعية، واسرائيل الشرقية دعمت ارمينيا لانها تخشى القومية التركية التي تنافسها على الاقليم، كما انها ارادت تحجيم النهوض القومي التركي-التركماني–الاذري العام ومنع وصوله لاذربيجان الايرانية فتبدأ بالتحرك للانفصال وتلك هي الخطوة الاولى في مسيرة زوال اسرائيل الشرقية،وهذا يمكن ان يحصل اذا انتصرت اذربيجان.يتبع.