ان الموقف الامريكي في السودان يكشف الحقائق الاساسية المتحكمة بما يجري فيه فامريكا كانت تدعم بشكل رسمي النظام الذي تولى الحكم بعد اسقاط عمر البشير وكان دعما مفتوحا لدرجة جلبت الانتباه لحقيقة ان النظام ترعاه امريكا بصورة رسمية ومن ابرز المؤشرات انها رفعت اسم السودان من قائمه الارهاب والغت العقوبات عليه وقدمت دعما ماليا له وطلبت من صندوق النقد الدولي تقديم قروض ميسرة للحكومة ، وهكذا هو موقف الاتحاد الاوربي.وحينما قام العسكر بأنقلاب اقصى المدنيين من النظام يوم 25/10 انتفضت امريكا ومعها دول الاتحاد الاوروبي لتعلن مواقف حادة ترفض الانقلاب وتدعوا لاطلاق سراح من اعتقل وعودة المدنيين فورا الى الحكومه وتعتبرها هي الشرعية، ولتأكيد جديتها التامة اعلنت امريكا تعليق دفع 700 مليون دولار كمساعدة فورية كانت معدة للتسليم للحكومة السودانية.ان هذا الموقف الامريكي بحد ذاته يحدد طبيعة النظام السوداني بعد اسقاط البشير وهويته وبغض النظر عن كل الاعتبارات الاخرى، فامريكا ليست جمعية خيرية كي تدعم القوى الخيرة بل هي الدولة الامبريالية الاشد عدوانية في تاريخ الاستعمار والامبرياليات والاكثر قهرا ووحشية وسطوا على ثروات الاخرين.
ولايمكننا ونحن نرى هذا الموقف الغربي القوي والفوري والجاد بقيادة امريكا الا ان نتذكر حالتين متناقضتين كل التناقض: الحاله الاولى وهي موقف امريكا وبريطانيا من العراق تحت حكم البعث فهاتان الدولتان ودول اخرى في اوروبا وقفت موقف العداء الصريح والتام تجاه النظام الوطني البعثي في العراق ومارستا كافة اساليب التأمر والحرب ضده خصوصا منذ عام 1991 وحتى الان. فالبعثي منذ غزو العراق يعدم ويعتقل ويعذب تنفيذا لسياسة اجتثاث البعث ويحرم حتى من حقوقه في التقاعد والعمل، وامريكا واوربا تقفان موقف الداعم لكل تلك الجرائم،او الصامت عليها في افضل الاحوال،رغم انها جرائم تعادل مئات الاضعاف جرائم العدوان على المنتفضين من احرار السودان ، وهذه المفارقة في الموقف الغربي تجاه السودان والعراق تثير اسئلة لايمكن لاي مراقب الا ان ينتبه اليها ومنها : ما الفرق بين البعث في العراق والبعث في السودان؟ هل البعثي في السودان يختلف عن البعثي في العراق حتى يصبح البعثي في السودان بصفته مشاركا في الحكم مدعوما من قبل امريكا بينما البعثي في العراق تنصب عليه حمم نيرانها فتقتل ملايين العراقيين وتهجر خمسه ملايين اخرى منهم،من بينهم اكثر من 180 الف بعثي استشهدوا وعدد شهداء البعث في العراق اكبر بكثير من مجموع البعثيين في كل الوطن العربي؟ اخبرونا لم يحضى البعثي في السودان بحماية امريكا التامة و يحرم البعثي في العراق منها؟ هل هناك تغيير؟ ومن تغير :البعثي عموما ام قيادات بعثية بعينها هي التي تغيرت واقنعت امريكا والغرب عموما بانها تختلف عن قيادة البعث التاريخية المعروفة خصوصا رمزها الازهى صدام حسين ؟
ولكي نكون اكثر دقة يجب ان نذكّر بان المعتقلين في السودان من افراد الحكومة بما فيهم البعثيين منهم ذكرت الاخبار امس بانه اطلق سراحهم بعد ساعات من الاعتقال ماعدا واحد فقط، وهو خبر سرعان ما سحب من التداول بطريقة تعمق الشك بحقيقة الاعتقال! فحتى الان لايعرف اين هم وما ظهر رجح الشكوك بوجود لعبة نفسية حيث ان عبدالله حمدوك رئيس الوزراء الذي اثيرت اكبر ضجة على اعتقاله تبين انه كان في ضيافة البرهان في قصر الرئاسة لحمايته! وعاد الى بيته واتصل بوزير الخارجية الامريكية بصورة طبيعية مما عزز الاستنتاج بان لعبة خطرة جدا تجري بكامل عناصرها واهمها صنع ايقونات سودانية عبر الاعتقال تلتف حولها الجماهير وتكسب ثقتها من اجل تحولات اخرى قادمة في السودان وخارجه ،خصوصا تسريع محاولات اجتثاث البعث في العراق من داخله والتي تتصاعد الان لكنها تواجه مقاومة ضارية من الاغلبية الساحقة من البعثيين فتبرز الحاجة لايقونات مؤثرة تستطيع ترجيح كفة الحزبيين على البعثيين؟ واذا انتهى الحزب في العراق -لاسامح الله فهو باق بقوة ارادة مناضليه – هل سيبقى الحزب في الوطن العربي وفرع واحد من فروعه في العراق اكبر عدديا من مجموع الرفاق العرب كلهم ؟
وما اكد قوة هذا الاستنتاج هو الضجة الاعلامية على خبر الاعتقال التي استمرت تتجاهل خبر اطلاق سراحهم كما تتجاهل دلالات الوضع الطبيعي لحمدوك وكانها تريد ان تخلق منهم اساطير خارقة! ونحن نتمنى صنع ايقونات وطنية لانه يضيف الى رصيدنا الوطني والقومي بصفتنا بعثيين رصيدا اضافيا من السودان نفتخر به فكل بعثي صامد مفخره لنا نعتز به ولا نميز بين بعثي صامد في السودان وبعثي صامد في العراق فكلهم رفاق ولكن الحقيقه هي المعيار ومعرفتها هي الضروره القصوى والحقيقة الواجب معرفتها الان وليس غدا لخطورة ما يجري هي ان علينا ان نفهم الان لماذا تدعم امريكا البعثي في السودان وتعدمه في العراق وتحرم من بقي منهم من حق الحياة والعمل ؟
لما تدافع امريكا عن البعثيين في السودان وهي التي اعدمت القائد الشهيد صدام حسين في العراق؟ لماذا تدافع عن البعثيين في السودان وهي التي اعدمت الشهداء طه ياسين رمضان وعلي حسن المجيد وبرزان التكريتي وعواد البندر السعدون وعزيز العراق طارق عزيز ومزبان خضر وسبعاوي ابراهيم الحسن وسعدون شاكر واياد فتيح الراوي وسعدون حمادي وسلطان هاشم وغيرهم؟ هل البعثي في السودان يختلف عن البعثي في العراق؟ ان الاجابه على هذه التساؤلات المنبعثه من الضمير البعثي الحي سوف توضح الكثير والكثير وتكشف ما لا يريد البعض الكشف عنه.
والمثل العالمي الذي يقول (قل من هو صديقك اقول لك من انت) لايمكن تجاهله، فلا الظروف الخاصة بقطر معين تبرر ما حصل ولا امريكا غيرت سياستها لانها مبنية على ستراتيجية ثابتة لا تتغير الا بهزيمتها وعندها تختار اساليب اخرى لمواصلة نفس الستراتيجية وتحقيق الاهداف ذاتها. ولنتذكر بوضوح ان امريكا خططت لتقسيم العراق وبقيه الاقطار العربيه بما في ذلك السودان وبدأت عملية تقسيم السودان بفصل الجنوب والتهيئة الان لفصل اجزاء اخرى ومقدماتها واضحة في اضراب شرق السودان وغيره،والملاحظة البالغة الاهمية هي انه اذا كانت امريكا تميز بين بعثي واخر فهناك خلل في احدهم و هناك صواب في الاخر فمن هو صاحب الخلل ومن هو صاحب الصواب؟
في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ العراق والامة العربية والتي يمر فيها حزب البعث العربي الاشتراكي باخطر مراحل نضاله وحياته حيث يتعرض للاجتثاث بطرق جهنمية من داخله ومن خارجه ولعل ابرزها هو محاولة تشويه صورته ونقله من حالة المقاومة المسلحة لتحرير فلسطين وكل ارض عربية محتلة الى حالة الاستسلام والتكيف مع الضوابط الامريكية ومنطلقات العمل السياسي الامريكي وهي معلنة وصريحه فلا مجال لاشتراك اي طرف وطني حقيقي في اي حكومة في الوطن العربي لامريكا سيطرة عليها او لنقل تاثيرا قويا عليها الا اذا كان ذلك الطرف قابلا بالشروط الامريكية وهي شروط وضعت لخدمة الاهداف الامبريالية الامريكية ولخدمة اسرائيل الغربية ايضا.
وهنا نذكّر والتذكير له صلة مباشرة بما يجري في السودان ففي عام 2014 عندما طرح الحزب في العراق (مشروع الحل السلمي والشامل لازمة العراق) واكد انه يطالب بعقد مؤتمر دولي لحل الازمة فيه باشراف دولي لضمان نتيجة يمكن تطبيقها، وعمم مكتب العلاقات الخارجية القطري المشروع على وزارات الخارجية للدول الدائمة العضوية في مجلس الامن وغيرها، فردت وزارة الخارجية الامريكية بالموافقة على المشروع وطلبت من الحزب تشكيل وفد من الحزب للتفاوض حول تطبيق المشروع ووافق الرفيق الامين العام رحمه الله على ذلك وتم تشكيل الوفد برئاسة الرفيق الرفيق خضير المرشدي امين سر المكتب وعضوية اعضاء من مكتب العلاقات الخارجية القطري فما كان من وزارة الخارجية الامريكية الا ان طالبت بتغيير الرفيق رئيس الوفد وجعل احد اعضاءه رئيسا له! وعندما عرض الامر على الرفيق عزة ابراهيم رحمه الله رفض هذا الشرط لانه يمس بأستقلالية الحزب وهويته، ففشل الحوار العراقي مع امريكا وتوقف منذ ذلك الوقت، وهذه الحادثة تفسر الموقف الامريكي من السودان الان وكل اعضاء المكتب احياء بما فيهم امين سره السابق. فلم هذا التناقض في الموقف الامريكي تجاه البعث في العراق مع موقف امريكا من البعث في السودان ؟
اما الحالة الثانية الواجب الانتباه اليها فهي التساؤل التالي: لماذا لم تتخذ امريكا وبريطانيا ودول الاتحاد الاوروبي نفس الموقف المتحمس ضد الانقلاب في السودان تجاه ما يحدث في العراق خصوصا منذ انتفاضة تشرين؟ لقد استشهد اكثر من الف عراقي غدرا وتوفرت افلام تثبت وجود جرائم بشعة وعرف الفاعل بلا غموض ومع ذلك لم نرى حماس امريكا ولا بريطانيا ولا الاتحاد الاوروبي في ادانة هذه الجرائم بل نرى ان الغرب يدعم رسميا وبقوة نظام المنطقة الخضراء ويرفض اسقاط العملية السياسية رغم كل جرائم النظام البشعة ضد الشعب عموما وضد البعثيين خصوصا ! لماذا ؟ لم استنفرت امريكا كل قواها ودخلت معركه السودان رغم انه لم يسقط قتيل واحد من القاده الذين اعتقلوا بينما بقيت تتفرج على الاعدامات الرسمية لعشرات القادة في العراق وللاعدامات البطيئة في السجون الخالية من ابسط متطلبات الحياة ؟ لم صمتت على ابادة اكثر من الف شاب بعمر الزهور من ثوار تشرين بقسوة لاحدود لها وبعمل مكشوف قامت به اسرائيل الشرقية وبقيادة ضباط ايرانيين!؟ كيف نفسر هذا التناقض؟ لماذا امريكا حريصه على حريه وارواح المدنيين في السودان وهي التي تقتلهم عمدا وتخطيطا في العراق؟
وما له دلالات عميقة تسلط المزيد من الاضواء على ما يجري في السودان هو تصريح الناطق الرسمي باسم وزاره الخارجيه الامريكيه يوم 25-10 الذي قال فيه بان ما حدث في السودان انما هو حسم للصراع بين المدنيين والعسكريين حول السلطه وليس انقلابا لان الانقلاب يحتاج الى تعريف قانوني!(وكالات) وهذا التصريح الملغوم يكشف عما تخبئه امريكا للسودان فهو مشابه لموقفها من اليمن حيث اظهرت شكليا انها ضد الحوثيين لكنها مكنتهم من ابقاء سيطرتهم على ميناء الحديده بعد ان اوشكت قوات الشرعية على تحريره فامرت امريكا الامم المتحدة بمنع مواصلة الهجوم على الميناء وفقدت الفرصة التاريخية لانهاء الصراع في اليمن لصالحه وغيرت موازين القوى لصالح الحوثيين! اليس كي يستمر طحن اليمن وهو ما تخبئه امريكا للسودان ايضا؟ تريد امريكا التمهيد لخطوات اخطر ضد السودان محورها زياده التشرذم السوداني وطحن السودان كما تطحن العراق وليبيا واليمن وسوريا لان هدفها النهائي هو انهاء وحدة الاقطار العربية بتقسيمها ومحو هويتها القومية وهذا يتطلب عدم انهاء اي ازمة بل تمكينها من التواصل وبدرجات اعلى من الخطورة والخسائر وتكسير عظام القطر ومرتكزاته الى ان ينهار واخطر انهيار هو الانهيار النفسي للجماهير لانه يؤسس لانبثاق كيانات هجينة ومهجنة قزمة ومقزمة وذلك ينسجم مع المسار التنفيذي لمخططات وضعت في بدايه القرن العشرين لمنع النهوض القومي العربي.يتبع.