أخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / حميد سعيد.. كان.. والآن؟

حميد سعيد.. كان.. والآن؟

بقلم: صلاح المختار

لم تكن الأخاديد قد حفرت بعد في وجه حميد سعيد عندما التقيته أول مرة:
كانت عيناه مجمرتان تومضان بمائة بريق، لكنه كان صامتا لا تخرج الكلمة من فمه إلا بعد استرخاء طويل، أو هكذا كان يبدو، قبل أكثر من نصف قرن!
عندما تعرفت على حميد سعيد كان الصخب والجدل يتجاوزان قمم النقاش المسترخي في أحضان ابتسامة واعدة، وكانت لغة الحسم المبنية على وجود خنادق متقابلة ولا تلتقي هي سنام الجدل، ومع ذلك كان حميد سعيد لا يستخدم فمه الا قليلا بينما كان بريق عينيه هو لغته المفضلة المتنقلة بين هذا وذاك، كأنه يردد في دخيلته أبيات شعر قيد التشكل ولا يريد لها أن تهرب في لحظة نسيان يتوجه الجدل ملكاً، لذلك كان بخيلاً بإهداء الكلمات.
كان هذا انطباعي الأول عن حميد سعيد، قبل زمن سحيق قضم عقوداً تجاوزت الخمسة، أما انطباعي الثاني وبعد أن تعرفت عليه عن قرب، فهو أنه، وإن بدا مرناً يحتوي الغضب المتدفق من وجه الآخر بهدوء ابتسامة تبدأ بنعم… صحيح.. ولكن؟… وهنا تبدأ رحلة التماهي والتناقض حتى تصل إلى شاطئ سيده الهدوء كأنك في باحة مدرسة تجري امتحاناً نهائياً يوجب غلق الأفواه. لم يكن حميد سعيد يعرف المساومة، وإن كان لا يستخدم السيف للحسم، بل كان يترك النهايات سائبة من دون أن توحي أنها تفضي إلى العدم، كان واضحاً بقدر قدرته على إقناعك أنه قريب منك ويدق على بابك حتى حينما لا تسأل عنه!
الرجال عناوين ولا يقرأها إلا رجال مثلهم وبرغم أن العنوان يبوح بأسرار ما دونه فإن حميد سعيد، في عنوانه، كان مزيجاً من الغموض الذي لا تستطيع احتيازه والانفتاح الذي يسمح لك بدخول عالمه، كان هناك من يظن أن حميد سعيد سهل المران وقابل للاحتواء، بعد أن سرح في ابتسامة حميد سعيد الموحية بالتساؤل والرقة، لكنه يفاجأ أنه غرس قدمه في أرض لا تهزها زلازل حتى لو تجاوزت مقياس ريختر. كنت قريبا منه وبعيداً عنه، في الوقت نفسه، والسبب مجهول حتى الآن، لكن ما زاد قربي منه هو عالم ما بعد غزو العراق، فبعد فراق طويل التقينا في عمان وكان كل ما يحيط بنا مجامر أسئلة لا تنتهي ولا تنطفئ، تحدثنا في المواضيع كلها ولكن العجيب أنني لم أشاهد أخاديد الزمن التي تسلقت وجهه برغم أنني كنت أجلس قبالته وأحملق في وجهه! كان حميد سعيد شاباً، كما عرفته قبل أكثر من نصف قرن، وهو يتحدث عن الغزو ومخاطره، كان يشكل قصيدة من دون أوزان وهو يتحدث معي عن عراق الكوارث الدامية، وكانت لغته قد تسمّرت في عنوان واحد وهو كيف ينجو العراق ويعود إلى أهله، ونرى، مرة أخرى، مسارح بغداد تغرق في الصراخ ومنصات القاعات تتعارك فيها أبيات الشعر من دون توقف وسط تصفيق يجعلك تتمنى لو نمت، ولو لدقائق، كي تستعيد القدرة على التركيز على أسراب أبيات تتوالى وأنت متعب يستعمرك النعاس!ّ
كانت بيانات حميد سعيد ضد الاحتلال قصائد تحكي قصص وطن سرق منا في ليلة ليست ظلماء، وكان صمته يتعارك مع قوافي قصائده وهو يتلوها على مسامعنا بصمته الطويل المختوم دائما بتصور واضح فيتركك متيقناً أن حميد سعيد ومهما مرت قوافل الزمن فوق وجهه فانه يحتفظ به خالياً من أخاديد الزمن برغم أنها بارزة فيه لكن كلماته المتفجرة مقاومة تقنعك أن الأخاديد وهم سري يجتاحنا حينما نركن إلى السكينة في عالم تتفجر فيه كل سواكن نفوسنا التي ترفض النوم إلا بعد أن ترش الأرض بماء الورد وتغسلها من آثار القدم الخارجية التي دنستها.
حميد سعيد يدخل نادي الثمانين وما زلت لا أرى في وجهه أخاديد الزمن تشقق صفحة وجهه، بل أراه شاباً قوياً متحدياً وهو يدخل نادي الثمانين، يهديك كلمات كلاً منها عالم سحري ينقلك إلى الغد الذي تحلم به فترى العراق، مرة أخرى، كما كان، أفضل مما كان.
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *