فى الوقت الذى يزاحم الفقراء والمعدمون القطط فى الشوارع والطرقات وعلى سلالم المنازل الفاخرة ليس نوماً أو جلوساً وإنما بحثاً عن قطعة خبز بالية أو فتات داخل كيس بأحضان الجدار أو على عتبة الباب أو داخل سلة مهملات ملقاة فى الطرقات كان راميها لا يبالى بما تحويه من بقايا طعامه، نظراً لتيقنه بأن هناك أيادي أحرى ستأتى لتفتش داخلها عسى أن تجد ما يسد رمقها، خلت صناديق قمامة المصريين الآن من بواقى الأطعمة وأصبحت أقوى دليل واقعى على ما وصلوا إليه من بؤس وحال سيئ بسبب الغلاء وجنون الأسعار الذى لم يعد يفرق بين غنى وفقير، وأصبح تواجد فضلات الأطعمة شبه مستحيل داخل أكياس القمامة خاصة لدى قاطنى المناطق المترفة من أبناء الأحياء الراقية مثل الزمالك وجاردن سيتى والمهندسين والدقى، وغيرها من الأحياء التى كان يعيش على فضلاتها عدد كبير من الزبالين.
وأشار عمال القمامة فى هذه المناطق إلى أنه منذ إصابة الأسواق المحلية بفيروس جنون الأسعار بات الأهالى حريصون على الاحتفاظ بالطعام الزائد وعدم شراء إلا ما يكفيهم فقط بعدما كانوا يشترون السلع بكميات كبيرة ليحرموا غيرهم العشرات من الفقراء ممن يعتمدون على بقايا الأطعمة لسد رمقهم.
بخطى بطيئة يسير جمال عبدالتواب، مترجلاً دافعاً بيديه عربته الحديدية المحملة بكمية من القمامة، لا تخلو الابتسامة من على وجهه برغم ما يعانيه هو وأسرته المكونة من 5 أفراد من غلاء الأسعار وعجزه عن شراء متطلبات منزله قائلا: أنا عامل نظافة فى الدقى منذ 15 عاما وكنت زمان أصرف أمورى بالطعام الذى أحصل عليه من بقايا أطعمة أولاد الذوات، فى سلة مهملاتهم أمام الشقق، كنت آكل أحلى أكل، كباب وفراخ مشوية ورومى وغيرها، لكن الآن مفيش الكلام ده «الزبالة» دلوقتى أكياس فاضية وبعض الفضلات من العظام وجلود طيور والمعلبات وده طبعا علشان الغلاء والناس بدأت تخاف على فلوسها.
أضاف: إيجار الشقة بالآلاف ماكانش فارق معاهم أنهم ممكن يرموا نص فرخة أو شوية كباب أو ببعض الجنيهات رومى، الواحد كان يملى الكيس ويروح بيه البيت للولاد، مشيرا إلى أن أبناء الذوات كانوا الأكثر صرفاً على الفقراء فى الطعام أما الآن فقد بات الوضع مختلفاً مع غلاء الأسعار، فالأهالى من أبناء المناطق الشعبية فى الدقى الأكثر صرفاً للطعام.
وتقول فايزة نبوى، موظفة، إحدى قاطنات منطقة الدقى: «الناس اللى لسه بترمى الأكل دول مافيش غيرهم دلوقتى إلا فى الأرياف، علشان الدنيا هناك لسه مش غالية زى عندنا، والطابع الأسرى عندهم لسه موجود بين الجيران، واللى محتاج حاجة ممكن يدى جاره غير أهالى القاهرة والجيزة، الأمر مختلف تمامًا»، وقالت إنها من أبناء إحدى قرى محافظة البحيرة، وما زالت تجد الأهالى يلقون ببواقى الأطعمة فى القمامة، من عيش وأزر.
وتابعت: «كمية قمامة أهالى القرى برضو اختلفت مابقتش زى الأول، ما هو ياريت المسئولين يرحموا الناس شوية، دول خلاص مابقوش لاقيين حاجة ياكلوها، وفيه غيرهم مش لاقيين العيش الحاف، لازم يكون فيه مراقبة على الأسواق، الزبالة بخرجها كل يوم أو يومين، لكن مابيبقاش فيها أى بواقى أكل».
محمود هوارى، صاحب محل لبيع الملابس، بالدقى قال: «هو احنا لاقيين ناكل عشان نرمى الأكل فى الزبالة؟، إحنا ناس غلابة على باب الله، زيادة الأسعار دى وقف حال على الشعب كله، يعنى اللى عاوز يعمل حاجة مش عارف يعملها، واللى عاوز يشترى حاجة بيأجلها عشان ظروفه، الناس مش لاقية تاكل، ومبقاش حد يرمى أكل فى الزبالة، الناس كلها بقت تحافظ على الأطعمة على قد ما تقدر لأنها بتجيبها بالعافية».
وقال أحمد عبدالعزيز، صاحب محل بقالة، بالقرب من منطقة جاردن سيتى: «زمان كنت برمى بواقى أكل وغيره من الرومى واللانشون، والجبنة اللى بحس أنها قربت تفسد عندى من الركنة، وعارف أن فيه كتير عايشين على الأكل ده، علشان عارف بكسب فيه ثواب، وده علشان كنت زمان بجيب بضاعة بكميات كبيرة وبيفيض عندي، دلوقتى لا طبعًا أنا بجيب البضاعة على قد الاحتياج وخلاص، لأن حركة البيع والشراء قلت، لما الأكل بيفيض عندى باستحرم أرميه فى الزبالة».
أضاف قائلاً: «الناس بدأت توفر فى الأكل، يعنى بقت تعمل أكل يكفى أفراد الأسرة عشان مفيش حاجة تفيض وتترمى، لأنهم بقوا يجيبوا الأكل بصعوبة بسبب الغلا فى كل حاجة، والعيش الناس كانت الأول بترمى اللى يفيض منها، وده كان بسبب سوء جودته، لكن دلوقتى اللى بيحصل العكس تماماً، العيش برضو بنفس سوء جودته، بس الناس بتاكله، ومش بيترمى منه حاجة لأن الناس مبقتش لاقياه من الأساس».
وأجرت «الوفد» جولة ميدانية فى منطقة «الزرايب» بمنشاة ناصر، التى تعد منبع قمامة القاهرة الكبري، والتقت بعدد من العاملين فى جمع القمامة فى المناطق المختلفة، والذين أشاروا إلى أن كمية الأطعمة فى الصناديق هذه الفترة أقل بكثير من الأعوام الماضية.
جرجس عواد، عامل نظافة قال: «أنا متخصص فى جمع القمامة من جاردن سيتى، وكل الساكنين هناك مرفهون مش فارق معاهم الأكل المتبقى اللى ممكن يصل لربع كباب أو فراخ، واحنا كغلابة كنا عايشين عليها، بس دلوقتى خلاص الكلام ده ماعدش موجود بعد غلاء الأسعار، وأكلهم دلوقتى بقى على قد استخدامهم، كنت بشوف الواحد منهم بيشيل بالأكياس وداخل الشقة، دلوقتى بالكتير 3 شنط صغيرة والفاضل منهم معلبات فاضية».
وتابع: «ماكنتش متخيل أن أهالى جادرن ستى ممكن يتبدل حالهم كده اللى إيجار الشقة فى الشهر تصل لآلاف الجنيهات، بقوا بيخافوا على اللقمة دلوقتي».
الأمر نفسه أكده فواز الناجي، عامل نظافة بمنطقة الزمالك، وقال: «سكان الزمالك بقوا بُخلاء، كان الواحد من الاهالى لما يفيض منه حاجة بيديهالنا علشان ناكلها، دلوقتى يابيه بيديها للقطط اللى عنده والكلاب، بيقول بعد غلاء الأسعار هم أولى بالأكل عننا بدل ما يشتروا ليهم أكل تانى من بره».
فيما قال شحاتة المقدس، نقيب الزبالين، إن ضخ القمامة فى القاهرة الكبرى يصل إلى 18 ألف طن يوميًا، منهم 8 آلاف فقط بقايا طعام، و8 آلاف مواد صلبة يتم تدويرها، و2000 غير قابلة للتدوير.
وأضاف المقدس: «عدد العاملين فى القمامة مليون، يعملون فى الجمع والنقل وإعادة التدوير»، مشيراً إلى أن الأكثر إنتاجًا للقمامة هم أهالى المناطق العشوائية، مقارنة بأهالى مناطق الزمالك وجاردن سيتى والمهندسين والدقي، وغيرهم.