بأيدينا فعلنا فى مصر ما عجز عنه الإرهابيون وأعداء الوطن.. بأيدينا حبسنا بلدنا فى دائرة مغلقة فلا هى تنفست الفجر الجديد، ولا هى خرجت للنور ولا هى تقدمت خطوة للأمام!
بأيدينا أهدرنا خلال السنوات الست الأخيرة ألف مليار جنيه فى عمليات التغيير الوزارى المتكررة – بحسب تقديرات الخبراء – وضيعنا على الوطن فرصًا ذهبية للخروج من دوامة الأزمات التى تعصرها وتعصر أهلها جميعاً.
فعلنا ذلك كله بطريقة فرعونية، يصر على تنفيذها أكثر من 90% من الوزراء الذين تولوا أمر البلاد منذ يناير 2011 وحتى الآن.. وآخر دليل على ذلك هو «البوكليت»!
«البوكليت فكرة عبيطة»، جملة قالها وزير التعليم الدكتور طارق شوقى، واصفاً بها الحل الذى قدمه وزير التعليم السابق الهلالى الشربينى، باعتباره فكرة عبقرية لمواجهة غش الثانوية العامة.
وهى الفكرة التى خرجت للنور بعد أكثر من 6 شهور، من اجتماعات، شارك فيها أكثر 100 مسئول حكومى وخبير تربوى وعضو برلمان، وعلى أثر ذلك تشكلت لجنة أطلق عليها اللجنة القومية لوضع نظام جديد لامتحانات الثانوية، وبعدها تم الإعلان عن المولود الجديد “البوكليت”. وقدمته وزارة التربية والتعليم على أنه الحل المدهش والمعجز والذى سيقضى تمامًا على الغش فى الثانوية العامة.. وأشاد به وزير التربية والتعليم – وقتها- الهلالى الشربينى، وجميع قيادات الوزارة ولجنة التعليم فى البرلمان.. ولكن ما إن تغيرت الوزارة وخرج الوزير الهلالى الشربينى وجاء الوزير مصطفى شوقى، كان أول تصريحات الوزير الجديد، هو قوله «البوكليت فكرة عبيطة».. هكذا ببساطة، نكتشف أن الفكرة التى كان يتم تسويقها ووصفها بالعبقرية، تتحول فى لحظة إلى فكرة عبيطة.
والحكاية مش حكاية «بوكليت» وإنما حكاية الكارثة التى كشفها «البوكليت»، وهى أن مصر ليست بها خطة استراتيجية، وأن كل وزارة لا تزال تدار بالطريقة الفرعونية، حيث يأتى كل وزير ليزيل ما فعله سابقة ويبدأ من جديد.. وهكذا تدور مصر فى حلقة مفرغة، فلا تتحرك خطوة واحدة للأمام!
264 وزيراً تولوا وزارات مصر عقب ثورة ينار حتى الآن، وإذا ما علمنا أن متوسط أعداد الوزارات فى مصر تراوحت بين 26 و34 وزيراً، أى أن متوسط الوزارات 30 وزارة، ومعنى ذلك أن متوسط عدد الوزراء الذين تناوبوا على الوزارة الواحدة هو 8.8 وزير، خلال السنوات السبع الأخيرة، وهو ما يعنى أيضًا أن متوسط عمر الوزير فى كل وزارة من الوزارات بعد الثورة هو 1.4 وزير كل سنة، أى أن فى مصر وزير كل 8 شهور، فما الذى يمكن أن يفعله وزير خلال 8 شهور ؟!
سيقول قائل إن الوزراء مش مشكلة، فالأهم هو بقاء رؤساء الوزراء، وحتى لو كان هذا الكلام صحيحًا، سنجد أنفسنا أمام واقع غريب، وهو أن خلال السنوات الست منذ يناير 2011، تناوب على مصر 7 رؤساء وزراء، وهم أحمد شفيق وعصام شرف وكمال الجنزورى وهشام قنديل وحازم الببلاوى وإبراهيم محلب وشريف إسماعيل، وهو ما يعنى أن متوسط عمر رئيس الوزراء بعد الثورة هو 10 شهور، فأى خطة استراتيجية ينفذها رئيس الوزراء خلال 10 شهور، وأى خطة ينفذها الوزير خلال 8 شهور؟
إذن منذ ثورة يناير، والوقت الذى يقضيه الوزير أو حتى رئيس الوزراء فى منصبه، لا يسمح له بأن يضع خطة أو ينفذ فكرة، قبل أن يستقر به المقام، وقبل أن يفهم ما يجرى حوله.
ويروى الدكتور شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة الأسبق، تجربته فى الوزارة فيقول: “عندما توليت الوزارة كنت حريصًا على أن أعلن صراحة أننى سأستكمل مسيرة وزيري الثقافة اللذين توليا المنصب من قبلى وهما الوزيران عماد غازى وجابر عصفور”.
سألته: ولماذا كان حرصك على إطلاق هذا التصريح فى بداية مهمتك الوزارية؟
فقال: “لأنى أؤمن بأن الوزارة ليست عزبة خاصة للوزير يفعل فيها ما يحلو له، ولهذا كنت حريصًا على أن أعلن أننى سأستكمل ما بدأه الوزيران السابقان علىَّ، والمؤكد أن ما فعلاه، وما خططا له استند إلى دراسات مسبقة تكلفت مبالغ مالية وشغلت ساعات عمل طويلة لقيادات، وموظفى الوزارة، وبالتالى لا يصح أبدًا أن يتم التخلص لمجرد تغيير الوزير، فضلاً عن أن العمل فى وزارة الثقافة تحديداً هو عمل تراكمى”.
عدت أسأله: وعندما توليت الوزارة هل وجدت سابقيك من الوزراء قد تركوا استراتيجية وخطة عمل مستقبلية للوزارة؟
– فقال الوزير السابق شاكر عبدالحميد: “توليت الوزارة فى ديسمبر 2011، ووقتها كانت مصر تموج بأحداث ما بعد ثورة يناير، ولم تكن مصر دولة بالمعنى الحرفى للكلمة، ولم تكن هناك استراتيجية للحكومة كلها، وإنما رؤى خاصة لكل وزير، أما الآن فالحياة تغيرت كثيرًا، واستقرت البلاد، وتوفر الدولة دعمًا كاملاً لكل وزير، ولهذا فمفيش عذر لأى وزير حاليًا، لكى يضع استراتيجية واضحة يسير على هديها”.
للمرة الثالثة سألته: وبرأيك هل يسير الوزراء حاليًا وفق استراتيجيات محددة؟
– فقال: الواضح إن كل المسائل عشوائية، وربنا يستر.
تركت وزير الثقافة الأسبق، وتوجهت للدكتور عبدالله المغازى معاون رئيس الوزراء السابق، لأسأله: هل وزراؤنا مازالوا يسيرون على الطريقة الفرعونية، بمعنى أن كل وزير يمحو كل ما فعله الوزير السابق عليه، ويبدأ من جديد؟. فأجاب: للأسف 90% من الوزراء يفعلون ذلك.. فكل وزير يعتبر وزارته وكأنها عزبة، ولهذا يتعامل فيها وكأنه الوحيد الذى لديه رؤية، وإبداع، ولهذا يهدم كل الأفكار والرؤى والتوجهات والمشروعات التى أقامها الوزير السابق عليه، ويبدأ من جديد، بطرح أفكار جديدة ورؤى جديدة».
وأضاف: «من واقع خبرتى كمعاون لرئيس الوزراء السابق إبراهيم محلب، أقول إن معظم الوزراء يسعون إلى كسر أى خطة وضعها الوزير السابق عليهم».
> عدت أسأله: وإلى أى مدى تنجح عملية الكسر هذه؟
– فقال تنجح فى تغيير ما بين 60% و70%، مما كان قائمًا قبل تولى الوزير الجديد، والنسبة الباقية تتمثل فى الأشياء التى لا يمكن تغييرها، مثل المشروعات التى تم إنفاق مبالغ كبيرة عليها، ويتمنى كل وزير أن يتخلص من تلك المشروعات.
> سألته عن السبب فى استمرار تلك الحالة، حتى الآن رغم أن المصريين عاشوا فى السنوات الأخيرة حالة ثورية، استمرت لأكثر من عامين متواصلين بدءًا من يناير 2011 وحتى يونيو 2013. فقال السبب أننا فى مصر مازلنا نفتقد الوزير السياسى، ووصل الأمر لدرجة أن وزير التموين على المصيلحى، رغم خبرته الطويلة فى العمل الوزارى، تسبب فى أزمة كبيرة قبل أيام بقراره الخاص بالكروت الذهبية الخاصة بالخبز.
إذا كان هذا هو حالنا، فما حقيقة ما نسمعه عن وجود خطط حتى 2025، و2030؟.. يجيب الدكتور عبدالله المغازى: جميل جداً أن يكون لدينا خطط حتى 2030 وحتى 2050، ولكن الأكثر أهمية أن تحدد ما الذى ستنجزه من تلك الخطة خلال العام الجارى، ثم العام الذى يليه ثم الذى يليه، وهكذا، أما أن نكتفى بوجود خطة تقول إننا فى عام 2030 سنكون فى وضع كذا وكذا، فهذا لا يفيد فى تحقيق شىء، لأن علينا أن ننتظر لمدة 13 عامًا كاملة لنعرف هل تحققت الخطة أما لا، وعندها لن تجد أحدًا تحاسبه، لأن الحكومة التى وضعت الخطة حاليًا من المؤكد أنها لن تكون موجودة عام 2030، فضلاً عن أن سنوات طويلة تضيع دون أن نحقق شيئًا، ولهذا فمن الأفضل أن نحدد هدفاً كبيراً نسعى لتحقيقه عام 2030 مثلاً، على أن نحدد ما الذى ستنفذه كل وزارة فى كل سنة من الآن حتى هذا التاريخ، حتى يتحقق الهدف الأكبر بعد سنوات، وفى تلك الحالة يمكن محاسبة كل مسئول عما نفذه أو أخفق فى تنفيذه خلال العام، وعندها يمكننا تدارك وتصيح أى خطأ مبكرًا، ونتمكن بالفعل من تنفيذ ما وضعناه من خطة.
وقبل أن أترك الدكتور عبدالله المغازى سألته: هل أفهم من كلامك أنه ما نزال ندور فى حلقة مفرغة، أو أننا بالتعبير العسكرى «نجرى فى المحل» فنتعب دون أن نتقدم خطوة واحدة للأمام؟.. فقال «للأسف هذا ما يحدث فى 90% من الوزارات حتى هذه اللحظة».
هذا الحال بلا شك كارثى، ويهدر أموالاً وفرصًا، ويخصم من رصيد الأمل فى نفوس المصريين.. ويقدر الحسين حسان – مؤسس حملة «مين بيحب مصر» ما خسرته مصر منذ يناير 2011 وحتى الآن بسبب هدم كل وزير لما فعله سابقه بمبلغ تريليون جنيه (ألف مليار جنيه).. ويقول «للأسف فى بعض الوزارات والجهات الرسمية، هناك من يعمل ضد الدولة، وضد الرئيس السيسى بشكل خاص».
ويضيف: لا توجد فى مصر مؤسسات تنفيذية تعمل بشكل جاد وتتقدم للأمام سوى مؤسسة الرئاسة، والقوات المسلحة، إضافة إلى الرقابة الإدارية، وما دون ذلك بيمثل إنه بيشتغل، ولكنه فى الحقيقة لا يقوم بعمل حقيقى.
وواصل: معايير اختيار الوزراء فى مصر عشوائية، بدليل أن أحدًا لا يعرف معايير اختيار الوزراء فى مصر، ولهذا نفاجأ بكوارث، منها مثلاً ما حدث مع وزير الزراعة الأسبق صلاح هلال الذى أحيل للمحاكمة بتهمة الفساد، بعد شهور قليلة من توليه منصبه الوزارى، وفوق هذا فإن كل وزير يمحو ما فعله الوزير السابق عليه، فوزير النقل السابق جلال السعيد ألغى 100 مشروع كان قد بدأ فى تنفيذها وزير النقل السابق عليه، سعد الجيوشى، والأخير عندما تولى منصبه الوزارى، استبعد كل من كان حول الوزير السابق عليه هانى ضاحى، وقرب منه من كان معاديًا لضاحى، وهكذا الحال فى كل الوزارات.
ودعا «حسان» إلى إلزام كل وزير بإعلان خطة عمله واستراتيجيته، عندما يتولى منصبه الوزارى.. وقال: «على كل وزير أن يعلن التزامه بالخطة التى يعلنها، فإذا فشل فى التنفيذ يقال، ويحال للمحاكمة، عندما يحدث هذا سيكون من السهل محاسبة كل وزير، وستتقدم مصر للأمام».