يواجه المشروع الوطنى الفلسطينى “تحديات وجودية” ناجمة عن تحولات داخلية فلسطينية وإقليمية ودولية، تتمثل فى استمرار الانقسام الفلسطينى ومحاولات تكريسه، وضعف وتدهور النظام العربى، عبر ضعف الدولة الوطنية فى العراق وسوريا واليمن،وليبيا وظهور فاعلين إقليميين كإيران وتركيا وإسرائيل، كذلك تغير البيئة الدولية بصعود “ترامب” والشعبويات اليمينية
فى العديد من الأقطار الأوروبية واحتمالات تغير النظام الدولى الذى عرفه العالم بعد الحرب العالمية الثانية، على ضوء التصريحات
والقرارات التى صرح بها واتخذها الرئيس الأمريكى الجديد، فى مواجهة القضايا الدولية وفى مقدمتها القضية الفلسطينية والمنظمات الدولية والتجمعات السياسية والاقتصادية والمهاجرين والمسلمين.
1- التحدى الاستيطانى الإسرائيلى:
فى مقدمة هذه التحديات التى يواجهها المشروع الوطنى الفلسطينى يبرز على نحو خاص الاستعمار الإحلالى الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة عام 1967، ذلك الاستعمار الزاحف بلا توقف منذ عقود طويلة مضت، وينبغى النظر لهذا الاستعمار ليس على أنه نتيجة لوجود إسرائيل، بل على أنه سبب لوجودها وامتداد له، فالاستعمار “الاستيطانى” الإحلالى فى أرض فلسطين هو عصب المشروع الصهيونى وذلك منذ بدايات تبلور هذا المشروع فى مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897، فما أن وقع الاختيار على أرض فلسطين لإقامة الوطن القومى لليهود، حتى تسارع إنشاء المنظمات الصهيونية التى تدعم الاستيطان كالصندوق القومى اليهودى والوكالة اليهودية، وبدأت أولى هذه المستعمرات منذ نهاية القرن التاسع عشر ولا تزال مستمرة حتى الآن.
وهذه العملية الاستعمارية تنطوى على عناصر ثلاثة مترابطة؛ الأول فيها الأرض أى أرض الشعب الفلسطينى، وثانيها هو المياه الفلسطينية، وثالثها هو المستعمرون اليهود القادمون عن شتى انحاء المعمورة.
وتنخرط هذه العناصر الثلاثة فى إطار المشروع الصهيونى الذى اعتمد منذ البداية على القوة والعنف، باعتبارهما اللبنات التكوينية والأساسية لتحقيق الهدف الصهيونى فى السيطرة على هذه العناصر، وتغييب وجود الشعب الفلسطينى، وحمله على اللجوء والمنفى بالإضافة إلى التواطؤ الغربى الاستعمارى مع الصهيونية من خلال وعد بلفور فى 2 نوفمبر عام 1917، ذلك الوعد المشؤوم الذى حظى بموافقة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا والمجلس الأعلى للحلفاء وعصبة الأمم التى أقرت الانتداب البريطانى على فلسطين، وضرورة تنفيذ هذا الوعد.
المهم فى سياق الوضع الفلسطينى الراهن طبيعة وأهداف الاستعمار الإسرائيلى الإحلالى فى الأراضى الفلسطينية التى احتلت فى عام 1967، على أساس اعتبار أن هذه الأراضى هى التى استقر عليها المجتمع الدولى ومبادئ التسوية السياسية للصراع العربى الإسرائيلى والفلسطينى الإسرائيلى للدولة الفلسطينية بعاصمتها القدس الشرقية، والتى ذهبت كل القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة صوب تأكيد وضرورة الدولة الفلسطينية واعتبارها أساس حل الدولتين المعترف به إقليميا ودوليا.
وبصرف النظر عن أن إسرائيل فى حد ذاتها تعتبر مستعمرة كبيرة تحولت إلى دولة، ومنذ قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن المستعمرات الإسرائيلية “المستوطنات” التى بدأت مع “إيجال ألون” فيما وراء الخط الأخضر، ووصل عدد المستعمرين حتى عام 1977إلى 5 آلاف مستوطن ومستعمر يهودى، وتصاعد هذا الرقم حتى بلغ الآن ما يتراوح بين 750 ألف مستعمر أو 650 ألف مستعمر على مدار هذه الأعوام الأربعين، فى الضفة الغربية والقدس ومحيطها فى الأولى حوالى نحو 400 ألف مستعمر وفى القدس ومحيطها 350 ألف مستعمر ، ووفق التقدير الثانى 400 ألف مستعمر فى الضفة الغربية و 250 ألف مستعمر فى القدس ومحيطها، وهو ما يعنى أن عدد المستعمرين طيلة هذه الفترة قد تضاعف مقارنة بعام 1977 إلى نحو 150 مرة وفقا للتقدير الأول، و 130 مرة وفق التقدير الثانى وذلك وفق متوسط التقديرات المختلفة لأعداد المستعمرين، بيد أن ذلك لا يعنى أن الاستعمار الإسرائيلى قد تصاعد بوتيرة واحدة طوال هذه المدة، بل بوتائر مختلفة وفق ظروف المد والجزر والحالة السياسية وتوازنات القوى عبر هذه السنوات، حيث شهدت أعوام أوسلو وما أعقبها تصاعدا غير مسبوق للحالة الاستعمارية الإسرائيلية؛ لتكريس الأمر الواقع الإسرائيلى، وتعيين الخطوط الحمراء من وجهة النظر الإسرائيلية، التى لا يمكن تجاهلها عند وضع خطوط التسوية والحل، كذلك فإن الاستعمار الإسرائيلى قد ارتفع فى عهد “نتنياهو” بنسبة 55% عن المعدل السابق له.
تتوزع مستعمرات الضفة الغربية التى تشمل 400 ألف مستعمر على 128 مستعمرة، تمتد من جنوب الضفة إلى شمالها، بينما يتوزع مستعمرو القدس ومحيطها على 20 مستوطنة، وتنقسم مستعمرات الضفة الغربية إلى 11 تجمعا استيطانيا أكبرها فى “غور الأردن” (تجمع بنيامين) ويضم نحو ثلاث كتل استعمارية “جوش عتسيون” جنوب بيت لحم و”معالية أدوميم” شرقى القدس، “وأرئيل” شمالى الضفة الغربية، وتتركز هذه الكتل الاستعمارية فى المنطقة (ج) التى تسيطر عليها إسرائيل من الناحية الأمنية والعسكرية، وهى المنطقة التى تمثل نحو 60% من مساحة الضفة الغربية.
وقد لجأت إسرائيل والسلطات الإسرائيلية فى مصادرة أراضى هذه المستعمرات وانتزاعها من أصحابها الفلسطينيين، إلى أساليب مختلفة من بينها، انتزاع الأراضى بحجة الأغراض العسكرية والأمنية، ثم تحويلها بعد ذلك إلى مستعمرات، ومصادرة الأراضى الفلسطينية واعتبارها أراضى دولة، وكذلك من خلال التحايل والنصب والصفقات المشبوهة، وتعويق عملية البناء فى الأراضى الفلسطينية، من خلال الإجراءات المعقدة والمكلفة للحصول على تراخيص البناء للفلسطينيين، وذلك مقابل تسهيل هذه الإجراءات للمستعمرين الصهيونيين، بل ودعم الدولة للمستعمرات من خلال وسائل عديدة مالية وقانونية وحمائية.
وحرصت السلطات الاستعمارية الإسرائيلية على ربط هذه المستعمرات بعضها بالبعض الآخر، من خلال بناء شبكة طرق التفافية مغلقة مخصصة للمستعمرين وربط هذه الشبكة بإسرائيل، وذلك بهدف ألا يرى المستعمرون الإسرائيليون فى ذهابهم ورواحهم وجوه الفلسطينيين، التى تذكرهم دائما بأنهم مغتصبو هذه الأراضى، والقصد من ذلك هو تغيب الشعب الفلسطينى افتراضيا بعد أن عجزت إسرائيل عن تغييبه واقعيا.
ويضاف إلى هذه الشبكة الاستعمارية من المستعمرات والطرق الالتفافية، جدار الفصل العنصرى، الذى يتلوى فى الأراضى الفلسطينية فيما وراء الخط الأخضر “كالثعبان” على حد تعبير أحد المحللين، وفق خصوبة الأراضى وموقعها الجغرافى وكثافتها السكانية، وهو الجدار الذى أصدرت بشأنه محكمة العدل الدولية الرأى الاستشارى المعروف بعدم شرعيته وبعدم قانونيته.
2- استراتيجية الاستعمار الإحلالى وأهدافه:
تستند خطط الاستعمار الإحلالية الإسرائيلية إلى استراتيجية إسرائيلية يرتكز عليها بناء المستعمرات، المكون الأول فى هذه الاستراتيجية هو مقولة “أرض إسرائيل الكاملة” التى تشكل الضفة الغربية والقدس جزءا منها، وترتكز هذه المقولة على دعاوى دينية وتوراتية يغذيها اليمين الدينى والقومى المتطرف والحاكم فى إسرائيل منذ مدة طويلة، كما أن الاستراتيجية ترتكز على اعتبارات أمنية وعسكرية فهذه المستعمرات تشغل مواقع وأمكنة استراتيجية مهمة، لأمن إسرائيل وسياستها الدفاعية، كما أنها تمثل امتدادا واستمرارا للمشروع الصهيونى وتحديدا لأدواته وأساليبه تجاه الشعب الفلسطينى، خاصة مع سيطرة اليمين الدينى والقومى المتطرف على مقاليد السياسة الإسرائيلية، وتمكنه من السيطرة على الرأى العام الإسرائيلى، ودفعه نحو اليمين والتطرف وضعف تيار اليسار المعارض وفقدان مواقعه القيادية واحدا بعد الآخر، بالإضافة إلى ذلك ونتيجة له تقليص تأييد حل الدولتين بين الجمهور الإسرائيلى، وإعادة الاعتبار للاستعمار والمستعمرين فى الأراضى المحتلة.
وعلى غرار مفهوم “العمل العبرى” الذى رافق الموجات الاستعمارية الأولى للمشروع الصهيونى والتى كانت تهدف إلى تحويل اليهود المهاجرين إلى أرض فلسطين من المهن التقليدية لليهود خلال عهد “الجيتو” اليهودى إلى العمل الجديد الذى يرتبط بتأهيل المهاجرين وفق متطلبات المشروع الصهيونى فى إقامة الدولة والمستعمرات، يهدف الاستعمار الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية إلى “عبرنة” الأرض الفلسطينية، أى تحويلها إلى أراضى عبرية يهودية، وإسكات التاريخ الفلسطينى للأرض الضارب بجذوره فى أرض فلسطين، ومن أجل ذلك فجميع هذه المستعمرات تحمل أسماء عبرية توراتية لاستثمار الدعاوى التوراتية، وبعثها فى الواقع الفلسطينى، واستدعاء الميثولوجيا الدينية اليهودية، ومخاطبة نمط العقلية الدينية اليهودية المتشددة المستندة إلى التوراة والتلمود والحاخامات اليهود الأصوليين المتشددين دينيا، والوجه الآخر لهذه المسميات هو بلا شك تغييب الوجود الفلسطينى والعربى وتاريخ هذا الوجود.
أما على صعيد التسوية فإن تكثيف هذه المستعمرات والاستراتيجية الإسرائيلية التى تقف وراء ذلك، تهدف إلى فرض الأمر الواقع الإسرائيلى، والحؤول دون تجاوزه واستخدامه كورقة تفاوضية لتعيين معالم التسوية وخطوطها من وجهة النظر الإسرائيلية فى أى أفق لوضع هذه التسوية موضع التنفيذ.
وذلك يعنى وضع المفاوض الفلسطينى وجها لوجه أمام سيناريو التقاسم الوظيفى، كأمر واقع بدلا من تقاسم الأرض، أى توزيع الصلاحيات والأدوار بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، بدلا من تقاسم الأراضى، وهى القسمة غير العادلة على أى نحو من الأنحاء، مع ما يعنيه ذلك من فرض التصور الإسرائيلى للتسوية والسلام، وتعيين محتواه وطبيعته، والحؤول دون قيام دولة فلسطينية لا مقومات البقاء والتواصل الجغرافى والاستمرار.
وبعبارة أخرى فإن امتداد وانتشار الاستعمار الإسرائيلى فى الضفة الغربية والقدس، يستهدف تصفية حل الدولتين المستقر إقليميا وعربيا دوليا، والإبقاء على ما تبقى من الأراضى الفلسطينية كجيوب معزولة غير متواصلة جغرافيا أو بشريا، محكومة ذاتيا بسلطة لا تملك مقومات السيادة والسيطرة، ولا يسعها إلى القيام بالأدوار والصلاحيات التى تعينها إسرائيل، وهو ما لم يتورع جون كيرى سكرتير الدولة الأمريكى للشؤون الخارجية السابق عن الإعلان عنه فى خطابه أمام مؤتمر باريس، واعتباره أخطر عقبة أمام حل الدولتين، وحمل إسرائيل مسؤولية التعثر فى المفاوضات.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الاستعمار والمستعمرين بهدفان إلى إقصاء الفلسطينيين وإفقارهم، من خلال انتزاع ما تبقى لهم من الأراضى، وتهميشهم، والحؤول دون التواصل الجغرافى والبشرى بينهم، وشغل المكان والحيز العمرانى والجغرافى، تمهيدا للطرد والقبول بالأمر الواقع وحملهم على اليأس وفقدان الأمل.
أما فيما يتعلق بالقدس فإن الاستعمار فيها وفى محيطها، يهدف إلى عزل القدس من ناحيتها الجنوبية عن الضفة الغربية وتهويدها، وتحقيق أغلبية يهودية فى المدينة المقدسة، ومصادرة المطالب الفلسطينية والعربية بأن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية، وتأكيد أنها العاصمة الأبدية والموحدة لدولة إسرائيل، وذلك بهدف استكمال محاصرة وتصفية حل الدولتين وإجهاض وحمل المجتمع الدولى على القبول بذلك.
3- المستعمرات الإسرائيلية فى القانون الدولى: على صعيد القانون الدولى، بدءا من اتفاقية لاهاى ومرورا باتفاقية جنيف الرابعة وانتهاء بقرارات اليونسكو والأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن رقم 2334 فى 23 ديسمبر عام 2016، وكذلك الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية بشأن الجدار العنصرى، فإن جميع هذه القرارات والاتفاقيات قد أقرت بعدم قانونية المستعمرات والأراضى المحتلة، وخرق إنشاء هذه المستعمرات لمضمون ومحتوى هذه الاتفاقيات والقرارات، ذلك المضمون الذى يحظر تغير المعالم الديموجرافية والجغرافية والثقافية للمناطق المحتلة، والتى يترتب عليها نقل السكان الأصليين الخاضعين للاحتلال وإحلال آخرين من الدولة المُستعِمَرة مكانهم، أو تعويق حريتهم فى التنقل وتنغيص حياتهم وتعطيلها، إلا فى الحدود الضيقة جدا والتى تمثل ضرورات عسكرية ملحة، وهو الأمر الذى لا تنخرط فيه الحالة الاستعمارية الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة، وبالإضافة إلى ذلك فإن بعض هذه الاتفاقيات تعتبر الاستعمار فى الأراضى المحتلة وإحلال المستعمرين محل السكان الأصليين، جرائم حرب يحاكم المسؤولون عن القيام بها، كذلك حددت بعض هذه الاتفاقيات “لاهاى وجنيف” واجبات الدولة المحتلة فى الحافظ على الأقاليم، التى تخضع لاحتلالها، وحماية مصالح المواطنين الخاضعين للاحتلال؛ حتى يتقرر مصير هذه الأقاليم والمناطق بالتحرير والاستقلال.
والحال أن المستعمرات الإسرائيلية لا تحظى ولا تستند إلا إلى مشروعية القوة والقهر الاستعمارى، وهى المشروعية التى جرمتها وتجرمها كل القوانين والأعراف الدولية.
والحال أن إسرائيل ومنذ نشأتها وحتى الآن لا تزال تحظى “باستثناء” من تطبيق القواعد والمبادئ الدولية المستقرة، وذلك بسبب غلبة منطق القوة على منطق الحق، وتواطؤ المجتمع الدولى معها وتضامنه مع ممارساتها وتخاذله عن الشروع فى إرغام إسرائيل على احترام إرادة المجتمع الدولى وتطبيق هذه المبادئ.
4- المواجهة والخيارات الممكنة:
قد يكون من المهم تشخيص الحالة الفلسطينية الراهنة وتشخيص الحالة الاستعمارية التى تخضع لها الأراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية والقدس، ولكن الأكثر أهمية يبدو فى الوقت الراهن بحث الكيفية والخيارات الممكنة أمام الشعب والقيادة الفلسطينية؛ لاستعادة زمام المبادأة وإعادة المشروع الوطنى الفلسطينى إلى طبيعته التحريرية والاستقلالية.
ومن البديهى أن هذه المهمة أى مهمة بحث الكيفيات والخيارات الممكنة- هى مهمة بطبيعتها صعبة وجماعية وليست خيارا فرديا أو تنظيرا، وأفكار نظرية بعيدة عن الواقع، وما يطرح هنا أو هناك لا يعدو أن يكون مجرد عناصر للمناقشة والتفاعل، بهدف إيجاد حالة فلسطينية وعربية جديدة سياسية وفكرية قادرة على إدراك مخاطر الموقف الراهن، وقنوات ومسالك الخروج منه بأقل الخسائر الممكنة وبأكبر المكاسب الممكنة، عديدة ومتنوعة، هى الخيارات المطروحة على المشهد الفلسطينى الراهن، ولكن رغم تعددها وتنوعها، فإن ذلك لا يعنى أنها جميعا تقف على قدم المساواة والندية من حيث القابلة للتنفيذ والتطبيق والتحول إلى استراتيجيات وأدوات ووسائل فى الواقع العملى والميدانى.
ذلك أن بعض هذه الخيارات لا يتجاوز فى حقيقة الأمر الإطار النظرى والتنظيرى، مثل خيار الدولة ثنائية القومية أو خيار الدولة الديموقراطية العلمانية إذا ما اعتمد الخيار الأول أساس الحقوق الجماعية القومية للشعب الفلسطينى كمجموعة قومية وثقافية مختلفة أو إذا ما اعتمد الخيار الثانى أساس الحق الفردى فى المساواة والمواطنة فى إطار الدولة الواحدة الديموقراطية.
وفى حالة هذين الخيارين فإن العقبة الرئيسية تتمثل فى رفض إسرائيل لهما جملة وتفصيلا، إذا ما استثنينا بعض دعاة هذه الخيارين، وهم قلة تعد على أصابع اليدين، فإسرائيل التى تبحث عن الاعتراف بها من قبل الشعب الفلسطينى وقيادته كدولة يهودية أحادية الطابع، يصعب افتراض قبولها دولة تساوى بين حقوق مجموعتين قوميتين على الأرض الواحدة أو المساواة بين أعضائهما من زاوية الحقوق والمواطنة، وقد حاصر التطرف الصهيونى واليمينى والدينى أصحاب هذه الخيارات منذ نشأة الدولة، كما أنه وفى المقابل تخلت منظمة التحرير الفلسطينية عن خيار الدولة الديموقراطية العلمانية، الذى تبنته فى النصف الثانى من الستينيات، لمصلحة إقامة سلطة وطنية على أى جزء من أرض فلسطين، يتم تحريره، وتبنى البرنامج المرحلى، تجاوبا مع ظروف التسوية آنذاك.
من ناحية أخرى فإن كلا من هذين الخيارين كانا بحاجة إلى التأسيس فى الواقع العملى، أى التهيئة والإعداد والتنسيق وبناء المرتكزات المادية والسياسية والعملية لكلا الاتجاهين، وفى كل من الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى، ومن ثم فإن العقود التى استغرقها البحث فى التسوية والاستعداد لها والاستجابة التدريحية لمتطلباتها، قد عصفت بإمكانيات القبول بهذه الخيارات عمليا، وذلك فضلا عن تجذر وتشعب المصالح الكبيرة والمتشابكة المرتبطة بالتسوية وحل الدولتين، وعدم تهيؤ العقول والنفوس المتجذرة والمتمحورة حول الكينونة والدولة والسيادة، وارتباط ذلك بالهوية الوطنية لكل من الجانبين، ومن ثم فإن الطرح المتأخر لكل من هذين الخيارين يبدو فى اللحظة الراهنة مفارقا للواقع، الذى نشأ حول فكرة الدولة المستقلة لكل جانب على حدة طيلة هذه العقود.
وفى الوقت نفسه فإن كلا من هذين الخيارين يفتقد إلى قرارات دولية ومبادئ دولية قانونية تجوزه أو تشرعه كحل ممكن، ويفتقد لمرجعية دولية وتراض دولى وعربى، كما هو الحال بالنسبة لحل الدولتين.
وبالرغم من أن حل الدولتين يتعرض للتصفية والتآكل بسبب كثافة الاستيطان وانتشاره فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، واكتفاء المجتمع الدولى كما الدول العربية بالاستنكار والشجب والإدانة، فإن هذا الحل يبدو هو الخيار الممكن ولكن برؤية جديدة تفتح أمامه الطريق.
وبما أن خيار حل السلطة الفلسطينية، هو الآخر، لم يعد حلا؛ لأنه يشبه “هدم المعبد” على رءوس من فيه، ويوقع الضرر بالفلسطينيين شعبا وقيادة، ويحملهم المسئولية عما آلت إليه الأوضاع، فإن حل الدولتين يبقى هو الممكن بشرط ترافقه مع ظروف داخلية ودولية جديدة تبعث فيه الحياة.
أول هذه الشروط تبنى خيار المقاومة بجميع أشكالها فى مواجهة إسرائيل والمستعمرين، بل واستهداف المستعمرين مثلهم فى ذلك كمثل جنود الجيش الإسرائيلى؛ ذلك أن الاحتلال الإسرائيلى فى الوقت الراهن وكذلك الاستعمار الإحلالى فى الأراضى المحتلة أصبحا احتلالا واستعمارا دون ثمن أى مجانى دون مقابل، فلا الاحتلال يدفع تكلفته ولا الاستعمار أيضا، والحل أن المقاومة تفتح الباب لتراجع الاحتلال والاستعمار عندما يرى أولئك وهؤلاء أن ثمة ثمنا يتعين دفعه، وفى إبان الانتفاضة الثانية واستهداف المستوطنين أو بعضهم، غادر الكثيرون من المستعمرين مستعمراتهم، خوفا وبحثا عن الأمن، كما أن الرأى العام الإسرائيلى نظر إلى هؤلاء المستوطنين كما لو كانوا عبئا عليه، بسبب المحاباة الحكومية للمستوطنين ودعمهم ماليا وأمنيا، وقد تغيرت هذه النظرة بسيطرة اليمين الدينى والقومى المتطرف وافتقاد حل الدولتين لتعاطف الإسرائيليين.
من ناحية أخرى فإن المجتمع الدولى مطالب هو الآخر بنظرة أكثر إنصافا وأكثر حسما، فهو مطالب بالانتقال من مواقع الشجب والإدانة والاستنكار إلى موقع البحث فى كيفية ردع إسرائيل عن الاستعمار والمستعمرات، وحملها على وقف النشاط الاستعمارى بل وتفكيك المستعمرات والكتل الاستعمارية الكبرى والتوقف عن شرعنة الاستعمار فى الأراضى الفلسطينية، والخطوة الأولى فى هذا الاتجاه هى تطبيق نصوص اتفاقية جنيف الرابعة التى تمنح الدول السامية الموقعة على هذه الاتفاقية حق الدعوة إلى اجتماع لهذه الدول، للنظر فى بحث الانتهاكات الجسيمة الواقعة فى الأراضى المحتلة واتخاذ ما يلزم من قرارات وتوصيات.
من ناحية أخرى فإن القوى الكبرى والمجتمع الدولى ضالعان بما فيه الكفاية فى نشأة المسألة الفلسطينية، ويقع على عاتقها إنصاف الشعب الفلسطينى وتحمل مسئولية الممارسات الإسرائيلية التى لا تتم إلا بتشجيع منها، وذلك يعنى ضرورة البحث فى كيفية فرض حل الدولتين وإنهاء الاستثناء الإسرائيلى من تطبيق قواعد وقرارات القانون الدولى وإرادة المجتمع الدولى بل وقيام المجتمع الدولى بتبنى خيار المقاطعة الرسمية لإسرائيل، وفرض عقوبات اقتصادية عليها على غرار ما تم بشأن نظام جنوب أفريقيا العنصرى والتى انتهت بانهيار ذلك النظام. إذا ما تضافرت جهود الشعب الفلسطينى وقيادته فى استعادة الطابع التحررى للمشروع الوطنى الفلسطينى، والعودة الذكية للمقاومة على ضوء استراتيجية جديدة مع الجهود الدولية للانتقال إلى حيز الفعل بدلا من البقاء فى حيز الاستنكار قد يفتح الباب مجددا لحل الدولتين.
دون ذلك سيظل الباب مفتوحا لحل الدولة الواحدة كما تم التلميح إلى ذلك خلال المؤتمر الصحفى الذى جمع بين “ترامب” و “نيتانياهو” أى الدولة الإسرائيلية العنصرية الواحدة المسيطرة على الأرض والشعب الفلسطينى وليس خيار الدولة الديموقراطية التى يحظى فيها اليهود والفلسطينيون بحقوق متساوية