أخبار عاجلة
الرئيسية / اقتصاد / الصحراء الخضراء – لماذا ينبغي أن تلهمنا نهضة الصين جميعاً بقلم:الدكتور عاطف حمدي، عالم سياسي وباحث ومدرّب سابق في معهد كلينجنديل
الدكتور عاطف حمدي، عالم سياسي وباحث ومدرّب سابق في معهد كلينجنديل

الصحراء الخضراء – لماذا ينبغي أن تلهمنا نهضة الصين جميعاً بقلم:الدكتور عاطف حمدي، عالم سياسي وباحث ومدرّب سابق في معهد كلينجنديل

أمستردام، 27 مايو 2025
هناك لحظات تجعلك تصمت. ليس بسبب الحيرة، بل بسبب الإعجاب. أحد تلك اللحظات انتابتني مؤخرًا حين قرأت مقالًا عن أحدث ابتكار من الصين: روبوتات صحراوية تروّض الرمال بدقة وفعالية مذهلة. ليست خيالًا علميًا، ولا حلمًا تجريبيًا، بل واقع صارم وملموس.
في شمال غرب الصين، يعمل اليوم أكثر من مئتي “كائن رملي” — روبوت — يستخدمون حصائر من قش الأرز وخوارزميات معقدة ونباتات مقاومة للجفاف في معركة ناجحة ضد التصحر. مئات الآلاف من الهكتارات من الأراضي الميتة تحولت إلى واحات خضراء. ما كان رمزًا للعقم، بدأ يزهر من جديد. وبينما أقرأ هذا، أتذكر سنواتي في معهد كلينجنديل, المعهد الهولندي للعلاقات الدولية.
قبل عشرين عامًا، ناقشتُ مع زملائي مثل فرانس-بول فان دير بوتن وإنغريد دهوخه صعود الصين خلال دوراتنا التدريبية حول الجغرافيا السياسية. عناوين مثل “الصين كقوة عظمى صاعدة” أو “تصاعد حزم بكين” كانت تُطلق كأصداء تحذيرية في قاعات مملوءة بصناع السياسات. بعضهم استمع بإهتمام. وآخرون إبتسموا بأدب، وكأنهم يشاهدون فيلمًا شيقا لا يمس واقعهم. لكن الواقع سبق الجميع. ما بدا يومًا كأغنية مستقبلية، أصبح اليوم أوركسترا صاخبة لا يمكن تجاهلها.
الصين كمختبر للحلول المستقبلية
ما يثير إعجابي بشكل خاص هو طبيعة هذا الابتكار: لا تكنولوجيا تدميرية، ولا استعراض للقوة، بل ثورة صامتة في خدمة الأرض. الروبوت الصيني ينفّذ ثلاث مهام: الزراعة، وتثبيت الرمال، وإنشاء شبكات مقاومة لتعرية الرياح. فعاليته تصل إلى عشرة أضعاف عمل البشر. الكفاءة، والبيولوجيا، والروبوتات، والأهم: الرؤية المستقبلية.
ومع ذلك، لا تزال الدول الغربية منغلقة على ذاتها. تنظر إلى العالم من الداخل إلى الخارج. منشغلة ببناء الجدران بدلًا من بناء الجسور. وكأن الترابط العالمي أصبح فجأة خيارًا بدلًا من كونه حقيقة. في أول محاضرة لي في العلوم السياسية، تعلمت أن العالم مترابط. لا دولة جزيرة. ولا قوة عظمى جزيرة. ما تفعله الصين يؤثر في السعودية. وما تتعلمه السعودية يؤثر في مصر. وما ينمو هناك يؤثر في السوق العالمية، والمناخ، وبقائنا الجماعي.
لماذا لا يعدّ الإعجاب بالصين ضعفًا؟
أحيانًا يتهمني البعض بأنني مثالي. نعم، أنا كذلك. لكنني لست ساذجًا. أعلم كيف تسير الأمور في العالم. أعرف الواقعية، والمدارس الواقعية الجديدة، والتشاؤم السياسي. لكنني أؤمن بما هو أسمى: بالتقدم الجماعي. بالاختراقات التكنولوجية التي لا تُقوّي بلدًا واحدًا فقط، بل تُثري البشرية كلها.
نجاحات الصين لا يجب أن تُخيفنا. بل يجب أن ندرسها. نفهمها. ونسأل أنفسنا: ماذا يمكن أن نتعلم منها؟ أوروبا لا تعرف الصحراء كما نعرفها، لكنها تتعاون بعمق مع دول تعاني منها يوميًا: المغرب، الجزائر، مصر. فلماذا لا نبني شراكات حقيقية حيث ندمج معرفتنا في الاستدامة وإدارة المياه والحكم الرشيد مع الثورة التكنولوجية التي تحدث هناك؟
من التنافس إلى التكامل
رد الفعل الغربي غالبًا ما يكون دفاعيًا: نرى في المنافسة تهديدًا. لكن ماذا لو عدنا إلى البراغماتية التي جعلتنا أقوياء؟ عندما برعت ألمانيا في صناعة السيارات، تخصصت هولندا في إنتاج بعض قطع الغيار التي تحتاجها تلك الصناعة. ونَمَونا معهم. لا بالرغم منهم، بل بفضلهم.
تشجير الصحراء يعني طعامًا أكثر، وظائف أكثر، واستقرارًا أكثر. تخيّل ما يعنيه ذلك للهجرة، للسياحة، وللتنمية الاقتصادية. الصين لا تقدم نموذجًا علينا نسخه دون تفكير. لكنها تقدم مرآة. وهذه المرآة تعكس شيئًا نسيناه: الجرأة، والرؤية، والتعاون على المدى الطويل.
المستقبل الأخضر يتطلب فضولًا بلا حدود
ليس لدينا وقت للارتياب. ليس الآن. ليس في هذا القرن. تغيّر المناخ لا ينتظر. المجاعات لا تنتظر. التوترات الاجتماعية لا تنتظر. لقد حان الوقت لنتوقف عن تقسيم النفوذ ونبدأ بمشاركة الحلول.
بصفتي عالمًا سياسيًا، ومُدرّبًا، ومواطنًا عالميًا، ما زلت مفعمًا بالأمل. ليس لأن الواقع مريح، بل لأن الإمكانيات تذهلني. صعود الصين ليس تهديدًا. بل فرصة. لنا جميعًا.
عاطف حمدي،
عالم سياسي وباحث ومدرّب سابق في معهد كلينجنديل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *