أخبار عاجلة
الرئيسية / الجاليات / التمييز: قصة لا يريد أحد سماعها في هولندة … د. عاطف حمدي

التمييز: قصة لا يريد أحد سماعها في هولندة … د. عاطف حمدي

أنا لست ضحية.
أنا ناجٍ.
نجوت من هولندة.
ولدتُ في مصر، ونشأت بين الكتب، بين الأحلام، بين العوالم.
وفي سن الحادية والعشرين، تعلمتُ اللغة الهولندية. ليس لأنني كنتُ مجبرًا، بل لأنني أردتُ ذلك.
لأنني أردت أن أكون هنا. كاملًا. حقيقيًا. أشارك، لا أراقب.
درستُ بجهد. ليس من أجل التكريم، ولا من أجل الحصول علي وسام، بل لأُسهم بشيء.
لأُقرب المسافة بيننا “نحن” وبينهم “هم”.
وتخيل ماذا حدث؟
لم ينجح الأمر.
لأن الجسر كان باتجاه واحد فقط.
ربما تظن: شخص بهذه القدرات والإنجازات لا بد أن يكون طريقه سهلا؟
خطأ.
لا يُنظر إليك. لا يتم الاعتراف بك. لا يتم احترامك.
أحيانًا يتم تجاهلك حرفيًا. وكأنك غير موجود. أو أسوأ: يرونك عبء ثقيل ويحاولون تحجيمك وعزلك.
جئتُ هنا للتواصل والإندماج.
لا لأشتكي. لا لأشتم.
لكن ماذا تفعل حين تصطدم، رغم اجتهادك، وخبرتك، ونزاهتك… بجدارٍ في كل مرة؟
جدار من العنصرية المؤدبة. من التخريب الخفي. من الاشمئزاز المستتر.
هل تعلم، أيها القارئ الحكيم، كيف يشعر المرء عندما لا يُرحب به في البيت الذي ساهم ببنائه حجرًا حجرًا؟
أن تستثمر أهم مراحل حياتك في هذا البلد، في لغته، في مجتمعه — ثم تُوصم في النهاية بـ”الآخر”؟
لقد عملت في مؤسسات حكومية. في أدوار استشارية. وكمنسق استراتيجي.
وشهدتُ أمورًا لا توصف إلا بأنها غير إنسانية.
تتساءل: هل أنا المجنون؟ أم أن النظام هو الجنون بعينه؟
الزملاء يبتسمون لك بلطف، يومئون برؤوسهم. لكنهم لا يشاركونك المعرفة ولا حتي المعلومة.
تقرير” تحتاجه؟ “لست متأكدًا إن كان مسموحًا لي أن أتشاركه معك.”
وكأنني أمثل خطر على المؤسسة بل وعلي أمن الدولة.
مدير جديد؟ “مشغول”. يتجاهلك أسابيع. شهور.
حتى تستسلم.
حتى يختفي صوتك.
حتى تبدأ في التشكيك بوجودك نفسه.
وبينما أنت تعمل ليل نهار، ينظرون إليك نظرة تقول:
“لماذا تتحدث الهولندية بهذه الطلاقة؟”
وإن أخطأتَ، ولو قليلًا، يقولون:
هاه! ألم نقل لك؟ أنت لستَ هولنديًا حقيقيًا!
يا لنفاقهم.
ينادون بالتنوع. يحتفلون بالشمول والعدالة الإجتماعية.
ينادون بها كمقدمة أولوياتهم، يضعونها على المواقع الإلكترونية، وفي تقاريرهم السنوية.
لكن عندما يحين الفعل، يصفقون لبعضهم البعض,
نفس الأسماء، نفس الخلفيات، نفس الأعياد,
زواج مصالح في بدل أنيقة.
يسمونها “ثقافة”. وأنا أسميها كما هي: كارتل.
ثم يتساءلون: “لماذا لا ينجح المهاجرون؟”
أيها الساسة،
لأنكم تروننا كمشكلة، لا كفرصة.
أيها الزملاء،
لأنكم ترون وجودنا تهديدًا، لا إثراءً.
أيتها هولندا،
لأنك تفضلين أن تصرفي النظر بدلًا من الاستماع
لأنك تفضلين التهوين من المعضلة بدلًا من الاعتراف بها.
وفي الوقت نفسه، تواصل أرواحنا التحطم على إسمنتٍ صلب
ليس على اللغة. وليس على المضمون وليس علي القيم والمبائ
بل على الشكّ القاتل، الصامت، المزمن.
لا أكتب هذا للدراما.
أكتبه من أجل الشفاء.
لأتعافى من الجروح النفسية، من الندوب، من العزلة المفروضة!
لأنك تستطيع كسر إنسان دون أن تلمسه.
فقط بتجاهله المستمر.
ومع ذلك، لا زلت آمل.
لأني أرى هولندا كما يمكن أن تكون.
لأني أؤمن أن هذا البلد قادر على الأفضل.
ولكل من يعتقد أن له “الحق في الوجود” أكثر مني، أطرح سؤالًا واحدًا:
من منحني الجنسية الهولندية قبل ثلاثين عامًا؟
من سلمني شهادتي الأكاديمية؟
من اعترف بي كمواطن كامل؟ أنا موجود — إذا كنت موجودًا —
فأنا أطالب أيضًا بحقي في الوجود.
دعونا نتوقف عن ترديد شعارات مثل “التنوع” و”الشمولية” — ما دمنا لا نطبقها.
دعونا نسمي الأمور بمسمياتها:
نادي نخبوي” لا تدخله إلا بناءا على اسمك، ولهجتك، وأصدقاؤك ”
ثم يسمونها “ثقافة عمل آمنة”.
آمنة لمن؟
أختم بهذا السؤال:
إذا كان أمثالي، رغم كل المعرفة والجهد والإخلاص، يُلفظون خارجًا
فماذا يقول ذلك عن مجتمعكم؟ —
أنا لا أكتب لإرضائكم.
أكتب لأوقظكم.
لأننا إن لم نكشف العفن الآن، فسيظل ينتشر تحت البساط النظيف.
وذلك… لم يعد مقبولًا بعد اليوم.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *