أخبار عاجلة
الرئيسية / الجاليات / “أنا أتكلم الهولندية. وأنا موجود.” الدكتور عاطف حمدي، علوم سياسية
الدكتور عاطف حمدي، عالم سياسي وباحث ومدرّب سابق في معهد كلينجنديل

“أنا أتكلم الهولندية. وأنا موجود.” الدكتور عاطف حمدي، علوم سياسية

جئتُ إلى هولندا في العشرين من عمري.
لم أكن أتكلم كلمة واحدة من اللغة الهولندية.
لم يكن لدي أصدقاء، ولا شبكة علاقات، ولا أي نوع من الأمان.
كان لدي فقط حقيبة، حلم، وإرادة لا تنكسر.
ما وجدته لم يكن ترحيبًا دافئًا.
كانت هولندا باردة – حرفيًا ومجازيًا.
بلد ينادي: “تصرّف بشكل طبيعي”، لكنه يتصرف بغرابة حين تحاول أن تندمج.
بلد يرفع شعار الحرية، لكنه يعاقبك إذا اتخذت قراراتك بنفسك.
بلد يقول لك: “تعلّم الهولندية”، لكنه يسخر منك حين تخلط بين
. “de” و “het”
بدأتُ من الصفر.
لم أتعلم الهولندية من خلال دروس في الأحياء المهمّشة،
بل من خلال ليالٍ طويلة من الدراسة الذاتية.
شاهدتُ نشرة الأخبار الهولندية، التهمتُ أفلام أليكس فان وارمرودام،
استمعت إلى مناظرات البرلمان،
وقرأتُ كل شيء: من “مولتاتولي” إلى “آني م. خ. شميت”
ليس لأن أحدًا أجبرني، بل لأنني أردت أن أفهم هذا البلد.
النظام. الثقافة. التيارات العميقة. القواعد غير المكتوبة.
وكلما تعمقت في فهم هولندا،
ازداد فهمي لجذوري الخاصة.
للغة أجدادي.
لإيمانهم، حكاياتهم، صمتهم.
لم أكن روحًا تائهة في أرض غريبة.
كنتُ ما زلت جسرًا بين عالمين.
لكن كل خطوة للأمام كان لها ثمن.
لم يكن الجميع يتمنى لي النجاح.
رأوني كعربي. كمهاجر. كشمال إفريقي. كمؤمن قدري.
رأوا ما يريدون أن يروه.
لم يروا اجتهادي. ولا شهاداتي. ولا مساهمتي.
ولا الرجل الذي عمل، وتعلّم، وشك، وأحبّ، وصارع –
على مدار 35 عامًا – ليكون جزءًا من هذا المجتمع.
والمفارقة؟
هولندا تقول: “نحن بحاجة إلى الناس”
لكنهم يقصدون الناس الذين يملأون الرفوف، ينظّفون الطاولات،
ويعملون على غسالة الصحون.
أما من يريد أن يصعد، أن يكون نفسه،
فيُدفَع إلى الخلف.
“لماذا تتحدث الهولندية بهذه الطلاقة؟”
“لماذا تعرف تاريخنا أكثر منا؟”
“لماذا أتيت إلى هنا؟”
سأقول لك لماذا؟
لأني تعرّفت على هولندا – تعرفت عليها حقًا
لم أر فقط بلد الزهور والجبن ونماذج التوافق،
بل رأيت أيضًا بلد الجدران البيروقراطية، والحواجز المؤسسية،
والصمت المربك حين تتكلم لغتهم – لكن بلهجة صحيحة لم يعتادوها .
أحيانًا، أتذكر المسلسل البريطاني الكوميدي
“Mind Your Language”
مدرسة لغات مليئة بسوء الفهم، وصدام الثقافات، والأخطاء اللغوية المضحكة
لكن خلف الفكاهة كان هناك شيء أعمق:
الإنسانية، الصبر، والرغبة في التواصل.
هذا المسلسل علّم البريطانيين أن يضحكوا مع الآخر – لا عليه
في هولندا، لا توجد لدينا هذه المرآة.
لا يوجد لدينا “جيريمي براون” الذي يقول
.”لا بأس أن نختلف ونتعثر, ولكن دعنا نتعلم معًا.”
بدلًا من ذلك، نحصل على دورات اندماج وبرامج مواطنة.
تنتهي عند غسيل الصحون.
معلمين بلا شغف، بلا رؤية،
وبلا فهم للحوار بين الثقافات.
برامج تحوّل الإنسان إلى عامل ومقاول بسيط بلا أخلاقيات مهنية،
لا إلى مواطن.
ومع ذلك – رغم كل شيء، رغم التهميش والإهانة – بقيت
لماذا؟
لأني أؤمن بهذا البلد.
لأن أولادي وُلدوا هنا.
لأن إيماني يعلّمني الغفران،
والصبر،
والبحث عن الخير – حتى حين يكون نادرًا.
ولأني كعالم سياسي من أصول مهاجرة أعلم:
المجتمع لا يُبنى من تلقاء نفسه.
نحن نبنيه. بالرؤية. بالناس. بالشجاعة
وليس بالكراهية، وسوء الظن، والإقصاء.
هولندا بحاجة إلى أشخاص أكبر من جواز سفرهم.
أشخاص لديهم معرفة بعالمين.
بقدرة على التفكير، والمقارنة، والربط
ليس فقط من أجل اليوم،
بل من أجل المستقبل.
إذا استمررنا في تجاهل هؤلاء الأشخاص،
فلن نحصل على مجتمع.
بل على عوالم متوازية.
أحياء منعزلة وعشوائيات مزوّدة بالواي فاي
ناس ينسحبون – لا لأنهم يريدون،
بل لأنهم لم يُسمح لهم بالدخول أصلًا.
أنا موجود
أنا أتكلم لغتك
أنا أعرف تاريخك
وأريد أن أشارك في بناء مستقبلك.
ليس رغم خلفيتي,
بل بفضل خلفيتي..
د. عاطف حمدي،  علوم سياسية
متخصص في الاستراتيجيات، تطوير الأعمال، وإدارة العلاقات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *