كانت زيارتي الأولى إلى ذلك البلد الرائع في صيف عام 2010م عندما وطأت قدماي أرض العاصمة أمستردام في ساعة متأخرة من نهار طويل لم نعتد عليه في دولة مثل قطر التي أسكنها وأعمل بها لسنوات طويلة، أو في أي بلد عربي آخر.
ذكريات ذلك الصيف الجميل لم تفارقني لفترة زادت عن سبعة أعوام ونصف العام، عدت بعدها لأزور هذا البلد في أجواء لا تقل روعة عن سابقتها، فامتلكني انطباعات ذات نكهة مختلفة أغنت الأولى وزادت عليها.
في ذلك الصيف البعيد، استمتعت بطبيعة هولندا التي اقتصرت رحلتي فيها آنذاك على العاصمة أمستردام لمدة أسبوعين، تخللتها زيارة ليوم واحد لمدينة روتردام.
لقد نعمت بالطبيعة الآسرة من سهول ومياه وحقول للورد على مرمى البصر. كما أُعجبت بشوارع العاصمة وساحاتها وقنواتها المائية، كما بمتاحفها ومكتباتها وأسواقها. تجولت طويلاً في أحضان الطبيعة مستذكراً ومردداً ما أحفظه من أشعار وأغاني عن الورود والأنهار والسماء والغيوم والمطر والبحر.
في هذا الشتاء، وبعد طول شوق وانتظار، عدت إلى هولندا مصمماً ألا تفوتني الرحلة رغم كافة الظروف التي دعتني للتأجيل في سابق المرات.
لقد حاصرتني الطبيعة، هذه المرة، بضيق المتاح منها للتنزه والانطلاق الحر، كما بالأمطار والرياح الباردة وعتم النهار القصير وطول الليل. لكن هذا البلد الرائع والمعطاء لم يحجب عني كل هذا إلا ليجود علي بما هو أجمل وأبهى. فإذا حرمني سحر الطبيعة، عوضني بما للمعاني والقيم الإنسانية من أثر عميق في النفس. فقد استمتعت بالتحدث مطولاً إلى أهل ذلك البلد، وتبادلت معهم الأفكار ووجهات النظر، فوجدت فيهم حب العمل وروح المبادرة وملكات العطاء والإبداع. لمست منهم احترام الرأي الآخر والإيمان بالتعددية وعدم الضيق بمن يختلفون معهم. أعجبتني فيهم روح التسامح، وسعة الأفق، وطول النفس، والتزام جانب العلم والمنطق والنقد البناء. حييت فيهم الروح الإنسانية أثناء تعاطيهم مع كافة القضايا الدولية رغم بعدهم عنها. ولا غرابة في ذلك. فهذه القضايا تعني، في الواقع، كل ذي حس إنساني رفيع، وكل صاحب ضمير حي، فتأخذه إلى أقصى بقاع الأرض ليتألم آلام البشر هناك ويعيش مآسيهم، ويسعى لإيجاد الحلول الصائبة لها.
لم يحرمني ذلك البلد الانطلاق الحر إلى البحر والسهول والمنتزهات إلا ليدخلني في أجواء ربما زادت على ذلك فتنة وسحراً بما صنعته يد الإنسان. فالمعالم الحضارية تبعث فيك إحساساً فريداً يوحي إليك بروح المكان، فتستشف قصصاً متنوعة من تاريخ البلد وطباع أهله وعاداتهم ونمط حياتهم.
أما الجلوس في المطاعم والمقاهي العريقة فحدّث ولا حرج. فما أن تدخل إحداها حتى تخالجك أحاسيس المكان واللحظة، وستجد وراء كل منها قصة وأفكار وفلسفة رواها أصحابها ببناء داخلي وأثاث ورتوش ولمسات هنا وهناك تناغمت معها وكملتها هندسة أطباق الطعام وأسلوب تقديمها وطيب محيا النادل والموسيقا المصاحبة. كل من أولئك كان يأخذني إلى قصة وتاريخ ومعنى أراد صاحبه إيصاله لي بما أبدعت يداه من صياغة المكان والأداء. لا أبالغ إن قلت بأن كلاً من تلك الأماكن متحف بحد ذاته، بل يزيد عليك بطعام وشراب وخدمة راقية أنيقة.
ساحة دام وما حولها، كما المتاحف والمكتبات، تبقى أمثلة دائمة الحيوية على مدى فصول السنة، لا تخلو من الزوار والمعجبين من شتى البلدان والأمصار.
في زيارتي هذا الشتاء، وعشية أعياد رأس السنة، استقليت القطار إلى مدينة أوترخت. وما أن وصلت المحطة المركزية وخطت قدمي خارجها إلى المدينة إلاً وشاهدت بهجة العيد سيدة الموقف. رائحة السمك المقلي على الطريقة الهولندية، والحلويات الطازجة التي يتم تحضيرها على بسطات السوق الشعبي على مرأى من الزبائن، وأنواع الجبن التي لا تحصى. كل هذه بعض من المشاهد التي لا يستطيع المرء مقاومتها والمرور عليها دون التوقف والاستمتاع بها منظراً ومذاقاً. واصلت المسير في الأزقة الضيقة للمدينة مستمتعاً بمعالمها وعبق تاريخها. أمضيت يوماً كاملاً في المسير تخللته وقفات قصيرة لتناول الطعام والمشروبات الساخنة بفضول وشغف حتى ساعات المساء المتأخرة. وقد اختتمت زيارتي للمدينة بشراء الهدايا التذكارية التي تحمل اسمها وتبرز معالمها لتبقى شاهدة وملفتة لتلك الزيارة.
بعد أن استقبلنا ليلة العام الجديد في العاصمة في أجواء احتفالية صاخبة، كما درجت عليه العادة، خصصنا اليوم الأول من العام لزيارة مدينة صغيرة وادعة على شواطئ بحر الشمال واسمها فولندام التي تشتهر باسم مدينة الصيادين. كان لهذه المدينة منظراً فريداً ونكهة هولندية صرفة. أتحفتني المدينة، على صغرها، بمعالمها وسماتها المميزة. وقد جلست في واحد من المطاعم قل أن شاهدت جمالاً ورونقاً يضاهيه في الكثير من المدن الأوروبية التي زرتها. لقد كان طرازاً من الفن التشكيلي الخارجي والداخلي يعود إلى حقبة النصف الأول من القرن العشرين. والطعام هناك بمكوناته وأسلوب تقديمه لم يغادر تلك الحقبة. لقد عشتها بكافة تجلياتها واستغرقت بمتعتها لأكثر من ساعتين، وتمنيت المزيد من ذلك، وعزمت العودة إليه مجدداً.
مضت رحلتي إلى هولندا بسرعة لم أكن أتصورها لما زخرت به من متعة. لقد كان برنامج الزيارة غنياً ومفعماً بأحاسيس يحتاج المرء وقتاً طويلاً لاسترجاع تفاصيلها وتفاعلاتها الفكرية والعاطفية.
لم أغادر هذا البلد الرائع عائداً إلى الدوحة إلاً وكلي تصميم على زيارته مجدداً كي أستعيد جمال ذكرياته وأستزيد بزيارة مدن سمعت عن جمالها ولكن لم أرها بعد مثل لاهاي و ماستريخت غيرها من المدن والقرى الصغيرة التي ستتحفني بمزيد من الجمال والروعة.
حملت معي الكثير من الهدايا التذكارية والحلويات. والأحلى من ذلك كانت روعة الأحاسيس.
شكراً لكم يا أصدقائي يا أهل هولندا الذين جعلتم زيارتي هذه أجمل من سابقتها وعوضتم برودة الشتاء بحرارة لقاءاتكم، وعتمة الأجواء بالنير من أفكاركم والنبيل من أحاسيسكم. لقد جاد علي هذا الشتاء بما هو أشهى من ورود الصيف وخضرة الأشجار والسهول.
كانت رحلة أجمل من الورود.