ارسل لي احد الاصدقاء مقدمة اغنية من اجل عينيك لام كلثوم في صباح وردي الشرفات..وهو يعلم ان هذا اللحن الذي ابدعه العبقري رياض السنباطي يخترق شغاف قلبي ويدغدغ اوتاره وهكذا هي الحانه تبعث في النفس نورا يضئ سفح الحياة المظلم فينعكس على وجه القمر فيزداد ضياءا..
لقد مرت منذ اسابيع قليلة ذكرى ميلاده واحتفلت به اذاعة الاغاني فقط وهي التي لاتغادر مؤشر الراديو في سيارتي منذ ان كانت اذاعة ام كلثوم ..ومن عاش تلك الحقبة الثرية من الفن الراقي سوف يدرك ما أقول ببساطة فهذا الرجل الذي بدأ حياته في المنصورة وسمي”بلبل المنصورة” مع انه من مواليد فارسكور ذاع صيته كمطربا وعازفا وكانت تجمع والده المنشد صداقة بوالد ام كلثوم بعد ان التقيا على محطة قطار الدلتا وكانت السيدة ام كلثوم بصحبته وتلبس ملابس الرجال حيث كانوا ينشدون في الموالد والمناسبات…
وعندما شعر والده بموهبته نزل الى القاهرة في عام ١٩٢٨ وتقدم السنباطي الى معهد الموسيقى طالبا واذا به يبهر ممتحنيه فيعين استاذا للعود والاصوات وانطلق في رحلة التلحين لمشاهير ذاك الزمان عبد الغني السيد وصالح عبد الحي وغيرهم الى ان التقى بالسيدة ام كلثوم ١٩٣٥ وكانت البداية في “على بلد المحبوب وديني” والحقيقة ان من اطلق عليه لقب العبقري هي كوكب الشرق فقد افاض على عصر الفن ٥٣٩ لحنا منها ٩٥ لام كلثوم ولحن ل١٢٠ شاعرا ولكن تبقى القصيدة جسد ربما لايعرفها احد الى ان يأتي اللحن فيبعث فيها الروح فتعيش ومنها من يعيش طويلا كالاطلال والتي تغنت بها كوكب الشرق ١٩٦٦ وصنفت انها احلى اغاني القرن العشرين..
وبرغم ان بليغ حمدي قدح كل زناد فكره فابدع مقدمة سيرة الحب الجميلة ١٩٦٤ واتمها بباقي الثلاثية عن قصة الحب في الف ليلة وليلة ثم فات الميعاد من كلمات السهل الممتنع مرسي جميل عزيز..واتحفنا الموسيقار عبد الوهاب بالموسيقى الراقصة لهذه ليلتي رغم صعوبة كلمات جورج جرداق اللبناني..
واغدا القاك للهادي ادم السوداني بصوت ام كلثوم ومارسمته هذه الاغاني من تاريخ يبحر بك عبر زمن ضاع فيه المجداف والملاح ..فتعود مستيقظا بعد حين فقد يبدل الحب دارا والعصافير تهجر الاوكار.. وتتوالى الذكريات تترى عن هذا العبقري المبدع الذي حصل على الدكتوراه الفخرية ووسام الفنون من عبد الناصر والاستحقاق من السادات..
لكن الجائزة الفريدة هي من اليونسكو ١٩٧٧ فكان الوحيد من الوطن العربي من بين خمسة على مستوى العالم لخلو ألحانه من اي اقتباس اجنبي وانه الاكثر تأثيرا في محيطه العربي ..واذا تأملنا كيف نقل كلمات شاعر النيل وجعل مصر تتحدث عن نفسها فتبهرك الكلمات التي غلفتها الالحان بثوب من الوطنية التي تجعل كل خلجاتك تحتضن جوانحك فتحلق في سماء الوطن تستبطن كنوزه وتستشرف مستقبله ويشجيك بايام قيوده التي كسرها فانطلق مغردا كطائر الصفصاف…
واذا حاولت ان تعود لاجمل اغاني وردة ستجد اسأل دموع عنية حتى هدى سلطان التي هجرت الغناء عقودا مازلنا نغني لها ..ان كنت ناسي افكرك… واسمهان وفايزة وعبد المطلب وغيرهم الكثير..
وعندما تنتقل الى الاغاني الصوفية التي تغذي الروح وتثري الوجدان وتبعث النور في القلوب فلن تجد اجمل من القلب يعشق كل جميل لبيرم التونسي والذي كان يكفر بها عن كل تاريخه في الصعلكة كيف اطلقها السنباطي على لسان سيدة الغناء العربي.. او مع عبد الفتاح مصطفى في تائب تجري دموعي ندما…
واغاني رابعة العدوية.. عرفت الهوى مذ عرفت هواك لطاهر ابو فاشة وتستشعر معهم انك تحلق في فلك التوبة والسمو وترتفع لتصافح السماء…
وكيف لا يكون عبقريا وقد نقل لنا زمن الدولة الحمدانية التي حكمت منذ قرون..في اراك عصي الدمع شيمتك الصبر لابي فراس الحمداني كل هذه الكلمات صدحت بها كوكب الشرق في زمن اتسم بالعبقرية في الشعر واللحن والأصوات…وبرغم هذا التنوع الذي شكل وجدان جيلنا وترك بصماته على قلوبنا وعقولنا يبقى تميز التميز عنوان… فعندما تصدح الافكار في دنيا الاحلام ويتوه الفن في جنبات المكان تبقى دائما اصالة الالحان
المصدر: مجلة المصور