مشكلة الإختفاء القسري لأكثر من 250 الف
عراقي منذ الغزو الأمريكي للبلاد
بقلم : ناجي حرج
مدير مركز جنيف الدولي للعدالة
لم يكن الإعلان في 11/8/2019 عن دفن جثثٍ وصفت بانّها (مجهولة الهويّة) في كربلاء العراق سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد الذي بات يظهر الى السطح كاشفاً عن مشكلة اختفاء عشرات او مئات، الالاف قسرياً. وقد بات جليّاً اشتراك مؤسسات السلطة في استمرار وتعاظم هذه الجريمة، فهي تتهرّب من مجردّ الاعتراف بها ناهيك عن محاولة انهائها.
الأختفاء القسري، جريمة ضدّ الإنسانيّة، غالباً ما يبدأ بالاعتقال التعسفّي ثم تنصلّ الجهة التي قامت بذلك عن المسؤوليّة وعن تبيان مصير من اعتقلتهم.
ومنذ الغزو الانكلواميركي عام 2003، اختفى عددٌ لا يُحصى من العراقيين الأبرياء بعد اعتقالات عشوائيّة. وفي حالة عديدة كان يختفي دفعةً واحدة اعداداً كبيرة من الضحايا. ففي عام 2004 اختفى اكثر من 1500 مواطن من مدينة الفلوجة ولم يُعثر عليهم او على جثثهم لحد الآن، وتلى ذلك اختفاء المئات من المواطنين من مناطق بغداد وضواحيها. وغالباً ما كانت تُرمى جثث الكثيرين في الشوارع والأماكن العامة بعد فترات من اعتقالهم من قبل القوات الحكومية او الميليشيات. وفي ظلّ غياب إحصاءٍ رسمي حقيقي فان التقديرات التي اتفقت عليها عدّة منظمات غير حكوميّة دولية (ومنها هيومان رايتس ووج ومركز جنيف الدولي للعدالة) تتراوح بين 250 الف الى مليون مغيّب.
ومن المظاهر العالقة في الذهن لهذه الممارسة البشعة ان أقارب الضحايا كانوا يُعتقلون ويغيّبون ايضاً اذا ما قاموا بمراجعة الدوائر الرسميّة بحثاً عن أبنائهم اوآبائهم او إخوانهم. وحتى أولئك الذين كان يذهبون الى مستشفى الطب العدلي ببغداد لإستلام جثث أقاربهم كانوا يواجهون المصير ذاته.
وبعد عمليات الشحن والتهييج الطائفي عامي 2006 و 2007 ، جرت حملات اعتقالات وتصفية واسعة النطاق لالاف الأبرياء في العاصمة بغداد. وكانت المفارز الامنيّة والميليشياويّة تقف في الشوارع صباحاً لتعتقل المتوجهين الى المدارس والجامعات والعمل. كانت هذه المفارز تستدلّ على الهويّة الطائفيّة (للهدف) حسب الأسماء. وبعد فترة وجيزة يجري قتلهم، ورمي جثثهم في الشوارع. ولمّا صرّح الدكتور قيس سلمان مدير معهد الطب العدلي في بغداد (أواخر العام 2006) بان الثلاّجات قد امتلأت بالجثث تعرّض لمضايقاتٍ ادّت به الى الهروب خارج العراق.
والغريب انّه عوضاً عن ان تقوم السلطات بالعمل للتعرّف على الجثث وتسليمها لذوي الضحايا، باتت تنقل معظم الجثث التي يُعثر عليها في بغداد الى مقبرة النجف ويجري التصريح بهويّةٍ طائفيّة أخرى للضحايا. في حين يُدفن آخرون في مقابر جماعية بمناطق متفرقة من العراق حيث يجري فيما بعد الادعاء انّهم من ضحايا النظام السابق. وهكذا، يجري طمس الحقائق ويُحرم ذوو الضحايا من التعرّف على أبنائهم ودفنهم بكرامة. ويتبع ذلك حرمانهم من ايّة حقوقٍ توجبها قوانين الدولة.
وبعد دخول ـ او ادخال ـ داعش الى العراق في حزيران عام 2014، تكاثرت الميليشيات المسلّحة. ورغم ان السلطات أنشأت ما اسمته (هيئة الحشد الشعبي) كمظلّة تنظوي تحتها هذه الميليشيات، إلاّ انها بقيت، في معظمها، تتصرّف وفق اجندات قادتها الذين لم يخفوا تبعيتهم لإيران وتنفيذهم لأجتدتها الطائفيّة في المنطقة. وراحت تُطلق حملاتٍ لاعتقالات تعسفيّة ضدّ مناطق معينة ثم يختفي أثر من تعتقلهم.
استهداف طائفي
تشترك الميليشيات في استخدام خطابٍ طائفيّ كريه لغرض تجييش وكسب الاتباع من الرعاع ومن انطلت عليهم أكاذيب تشويه التأريخ واختراع القصص التي تفقد من يصدّقها عقله وتُذهب تفكيره. معظم قادة هذه الميليشات، همّ من نوع المجرمين الساديين الشاذّين. لقد قضوا حياتهم في قتال أبناء بلدهم مصطّفين مع القوات الإيرانية المهاجمة للعراق، فتشرّبوا بشتى صنوف الإجرام. وعندما اصبحوا في مواقع السلطة في العراق لم يتمكنّوا من التخلّي عن تلك العقليّة بل ظنّوا انّها الطريق الطبيعي في التعامل مع متطلبّات الحياة الطبيعية. ولعلّ مقاطع الفيديو المنتشرة على وسائط التواصل الاجتماعي، التي تتباهى بها هذه الميليشات، توضّح ما نريد قوله، إذا غالباً ما يجري الاجهاز على المعتقل بمئات البنادق ثم تقطيعه والايغال بالتمثيل بجثته. وفي كل المراحل تتعالى الهتافات الطائفيّة الكريهة من اعدادٍ كثيرة يتحلّقون حول جثة المغدور، فيهم الميليشياوي والشرطي والعسكري ورجل الأمن واحياناً رجل دين!.
ومن تفحُص مؤشرّات حالات الإختفاء القسري في العراق، لم يعدّ خافيّاً ان معظم المغيبين او المختفين، الذين استهدفهتم قوات الاحتلال الأمريكي ثمّ القوات الحكوميّة وميليشياتها، هم من المكوّن السنّي ومن مدن ومناطق تسكنها غالبيّة سنيّة. واحياناً، تتم العمليات بتهجير قسري لأولئك السكّان ثم تدمير منازلهم وحرق ما يتبقى فيها، وإضرام النيران في بساتينهم ومزارعهم، والقضاء على كلّ مقومات الحياة في تلك المناطق، ثمّ منعهم من العودة اليها ثانيّة بذرائع شتّى.
ولم تكن عمليات دفن مجموعة الجثث، في كربلاء، خالية من رسائل طائفيّة، أراد المشتركون في عملية الخطف والقتل والدفن ايصالها. فهو اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك، اهمّ المناسبات لدى المسلمين عامةً، والسنّة بشكل خاصّ. فقد تصورّت كل عائلة لديها مغيّب ان الجثث ربّما تكون لابنائها. وهكذا جرى تسميم فرحة العيد المُنتظرة بفعلٍ طائفيّ شنيع. فلم يشأ الدافن، وهو يتحدّث امام الكاميرا بلغةٍ من يقوم بعملٍ انساني، إلاّ ان يُبرز امام المشاهد المصدوم هويته الطائفية بوضوحٍ ساطع، في الوقت نفسه الذي أشار فيه الى الهوية الطائفيّة للضحايا الذين كان يمكن ان يبقوا أياماً او أسابيع أخرى في ثلاجة الموتى التي كانوا محفوظين فيها لولا الرغبة بان يكون دفنهم ضمن مناسبة لها وقعها في نفوس عوائلهم.
طمس للحقائق:
هنالك دلائل كثيرة في العراق تؤكدّ ان من جرى اعتقالهم بين عامي 2014 و2017 من مواطني الدور وسامرّاء والصقلاوية والفلوجة والرمادي ومدن ديالى والموصل، وآخرين من المدن المحيطة ببغداد (مدن حزام بغداد)، قد وضعوا جميعاً في سجون سرّية في مدينة جرف الصخر، فضلا عن أولئك الذين اعتقلوا من المدينة نفسها من الشباب والرجال بعد التهجير القسري لسكانها البالغين 120 الف نسمة عام 2014. وتتجه أصابع الاتهام الى ميليشا حزب الله (العراقي) كفاعلٍ رئيس، جنباً الى جنب مع ميليشا بدر وعصائب اهل الحق المجرمتين. وتشير معظم التقديرات الى ان عدد هؤلاء يقدّر باكثر من 7000 معتقل في جرف الصخر وحدها. ويبقى هنالك الالاف الذين يُعتقد انّهم معتقلون في سجون سرّية كبيرة في مناطق متفرّقة أخرى حول العراق.
لقد بات واضحاً وجود ضغط دولي لحلّ الميليشيات في العراق او تحجيم دورها في اقل تقدير، لذلك فهي تسعى للتخلص من الأدلّة على جرائمها، من خلال عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء والدفن الجماعي السرّي غير القانوني. ومن هنا، فإن تهرّب الدولة من فحص الجثث والتعرّف على هوياتها وتسليمها للعوائل المعنيّة هو جزء من محاولة مستمرّة لطمس الحقائق وإبقاء القتلة ـ المعروفين لديها ـ خارج طائلة العقاب.
نحن امام حالة خطيرة جداً، لكنّ الأمل ما يزال قائماً في عودة العديد من الأشخاص الذين اختفوا، ولن يتمّ ذلك إلاّ بضغط عربي ودولي، هائل، على سلطاتٍ ادمنت التنصل من ايّ التزامٍ قانوني او أخلاقي.