مهما كان التعتيم، إلا أن الأيادي «العابثة» تمكنت بعد جهد جهيد من فك الشفرات، والتسلل إلى المحجوب، وإنتشاله من مخابئه، لتعيد بعثه وبثه، ليري مرتادو الشبكة العنكبوتية في الأناضول المحاصر اليكترونيا،بالصوت والصورة، ترجيديا إغتيال السفير الروسي أندريه كارلوف على يد رجل شرطي شاب قادم من مدينة « أيدن» غرب الأناضول، التي دارت فصولها يوم الأثنين الموافق التاسع عشر من ديسمبر في قلب عاصمة الجمهورية التركية ، قبل ايام معدودة من الكريسماس.
وهي دلالة لا تخف عن أحد، ولا يمكن إعتبار التوقيت مصادفة، خاصة وأن عملية القتل رافقها عبارات دينية رددها القاتل ، قيل وفقا لشقيقته، أنه أكتسبها وتعلمها من خلال عمله بالقصر الرئاسي بضاحية بيش تبة بأنقرة، وها هو يطبقها على أرض الواقع والإنتقام من قتلة الأطفال بحلب والذين يدورون في ركابهم، صحيح لم يذكرهم صراحة ، لكن كان واضحا أنه يقصد قادة بلاده.
الأدهي وتلك غصة أخرى سكنت حلوق من يديروا البلاد والعباد، أن هذه الدراما المرعبة، سوف تتكرر لاحقا مرتين، إحداهما وقعت فيما وراء التخوم، والأخرى بقلب إسطنبول وفي ليلة رأس السنة، وكلاهما أنطلقتا من ذات الأيديولوجية المتطرفة التي راعتها حكومة العدالة والتنمية قبل أن تنقلب عليها، فقط المسرح هو الذي تبدل.
ففي الأولي يصبح على بعد كيلومترات من الحدود بمنطقة الباب السورية، حيث هناك أيضا قوات درع الفرات في مفارقة دامية، ليشاهد القاصى والدانى على مدى تسع عشرة دقيقة تفاصيل حرق جنديين تركيين في مشاهد مروعة، تجنب صانع القرار التعليق عليها وكأنها غير حقيقية، تاركا ذويهم يضربون أخماسا في أسداس قبل أن تنفطر قلوبهم حزنا ولوعة، ولم يكن مر سوى أيام قليلة على حادث مصرع كارلوف، الذي أضاع هيبة أنقرة وفقا لما قاله الكرملين، وهي المقولة التي ضربت كبرياء وريثة الإمبراطورية العثمانية في مقتل، وجعلتها في موقف لا تحسد عليه.
ومع تواصل نزيف العتاد والجنود في المواجهات ضد تنظيم داعش منذ الرابع والعشرين من أغسطس، والذي وصل للذروة الشهر الماضي ( مصرع 16 عسكريا دفعة واحدة )، بدا أن الرجوع والتقهقر أمران لا مفر منهما، وهكذا تم تسليم مفاتيح الحل وبشكل نهائي إلى حفيد القياصرة « الصديق الغالي « فلاديمير بوتين « وهو التعبير « العاطفي « الذي قاله الرئيس رجب طيب أردوغان.
أردوغان لم يكتف بذلك بل راح مؤيدا وجهة النظر الروسية حيال جيوب الإرهاب ، حينما شدد على « أن بعض التنظيمات التي أعلنها مجلس الأمن بأنها إرهابية لن يشملها وقف اطلاق النار» الذي تم التوصل إليه في موسكو بحضور اللاعب المؤثر الجارة الفارسية إيران .
وإستمرارا لنهج التنازلات، إرضاء لموسكو الحزينة جدا على مقتل سفيرها وفي نفس الوقت إحتواء غضبها حتى لا تعود البلدان إلى مرحلة الجمود التي أعقبت اسقاط المقاتلة ساخوى وخسرت تركيا بسببها الكثير، قال وزير خارجية الأخيرة مولود تشاويش أوغلو «إذا ألقى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب السلاح، وأيدا وحدة أراضي سوريا فيمكن إدراجهما في إطار حل شامل، بل ومشاركتهما في مؤتمر للسلام المزمع انعقاده في كازاخستان «في تطورلافت مقارنة بجملة لاءات كانت تتردد في الماضي القريب رافضة بالمطلق اي وجود لهما في أي مفاوضات تتعلق بمستقبل سوريا كذلك لم ينعتهما، وهي المقولة المعتادة، بأنهما امتداد منظمة حزب العمال الكردستاني الإنفصالية.
أما عن مصير «العدو» الجالس على رأس السلطة في دمشق ؟ فلم يأت ذكره اللهم مرة واحدة على لسان تشاويش أوغلو، وهو ما فسره خبراء بأنه جاء أولا لحفظ ماء الوجه وثانيا لتهيئة الرأي العام إحتمال أنه أجلا أم عاجلا سيكون هناك تعامل بشكل أو بأخر مع النظام السوري، بيد أن نور الدين جانيكلى وهو مسئول حكومي بارز قال يوم الجمعة الماضي (30 ديسمبر) فى اجتماع لجنة مختصة بتحسين مناخ الاستثمار، أن تجارة بلاده مع سوريا والعراق ستكتسب زخما فى العام المقبل، هذا التصريح يأتى بعد يومين من تصريح وزير المالية محمد شيمشك أعترف فيه بوجود أزمة في مداخيل البلاد من العملة الاجنبية. تركيا أذن المترنحة اقتصاديا، يحدوها الآمال العريضة بعودة التطبيع إلى المنطقة التي هلكتها النزاعات والحروب، وأن يعم عليها السلام والأمن، ورئيس الوزراء بن علي يلدريم الذي يدرك تردي الأوضاع المعيشية لعموم مواطنيه، لم يخف سعادته للأجواء المغايرة التي ستهل حتما بالتزامن مع وقف إطلاق النار مستبشرا بتبادل تجاري مع من كانوا اعداء!!
غير أن الرياح سرعان ما حملت تسونامي إرهابي ثان ولكنه أكثر دموية، وذلك بعد ساعة واحدة في أول يوم من 2017، وليس له من تفسير سوى أن منفذه والجهات التي تقف وراءه ارادوا توجيه رسالة قاسية ومروعة للدولة التركية التي كانت متساهلة معهم، مفادها لن تهنأوا بأي أستقرار وأنه سيكون هناك عقاب مأساوي على دخول أنقرة محور موسكو وطهران .
المذهل أنه قبل الحادث والذي تصادف ظهيرة يوم ممطر عاصف خاطب رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم مجموعة من اللاجئين السوريين بمدينة كيليس الحدودية جنوب الاناضول مؤكدا عزم حكومته القضاء على جميع الإرهابيين الذين يستهدفون الناس في تركيا وسوريا، متوعدا بمحاسبة عسيرة لمن تسببوا في معاناة الآلاف الذين شردوا وتركوا منازلهم وأراضيهم .
ومساء نفس اليوم أطل الرئيس رجب طيب أردوغان على شعبه وكله ثقة في إقتلاع الإرهاب من جذوره قائلا خلال كلمته الإحتفالية برأس السنة « أن المنظمات الإرهابية (حزب العمال الكردستاني وتنظيمي الداعية جولين وداعش) ليست إلا مطية تشكل الوجه الخارجي لقوى كبرى تقف وراءها وتدعمها وتركيا قادرة على مواجهتهم جميعا . ولم تمر سوى ساعات إلا وتهتز البلاد بكاملها بفجيعة هي أشبه بعملية إعدام جماعي طالت أبرياء كانوا يحتفلون بالعام الجديد في أورطا كوي أكثر مناطق إسطنبول حيوية وضجيجا، لتتشح في لحظات بظلام الموت.
حادث يأتي في ظل حالة مخاض مريعة وإستقطاب سياسي غير مسبوق تشير إلى مرحلة مضطربة لن تجد لها مرفأ على المدي المنظور.