بقلم: صلاح المختار
الحياة لغز الالغاز ، فلا لغز اكثر غموضا منها، معها نزرع في الارض وبها نغادرها كما اتينا: مجرد عدم مغروس في بنية الشعور القاتل، نغادر بدون حمل اي شيء مما كنزناه من حب ومادة واعمال الا الاثر الذي يبقى بعدنا، نغادر ونحن لانعلم ان كنا سنذهب الى عالم اخر ام اننا ذاهبون الى العدم ، ولكن حتى هذه الفكرة تجرنا الى لغز اخر : ما هو العدم؟ وما هو العالم الاخر؟ مسلسل اسئلة لاتنتهي ولا ينجو منها الا طفل مازال يرفس غطاء فراشه ويتمطى والوان المستقبل تتزاحم في عينيه الوديعتين الوادعتين وهو لايعلم ان ما ينتظره ليس فيه وداعة ، بل ثمة تتابع الطهر والتلوث في مصفوفة متناقضة لاتنتهي كأن الحياة مجرد سباق بينهما ، والمحظوظ هو من يفوز بالطهر ولكن مأساة عالمنا الملوث تبقى تجره للبؤس والمعاناة حتى نخاع العظم!
منذ عقود وانا اغرق في تساؤل جدي لم تنجح السياسة في ابعاد شبحه الا مؤقتا وهو : من نحن ؟ ولم نحن هنا ؟ ولم نرحل ؟والى اين نرحل ؟ام اننا زائلون والعدم ينتظرنا والعدم هو اللاشيء والصفر المطلق؟ وكل هذه الاسئلة التي تداعب عقول من تجاوزوا الخمسين عاما تفرض بجبرية تامة تساؤل اخر: ماذا سنرى غدا عندما نخلع جسدنا ونخرج وحدنا من عالمنا؟ السر الاعظم يبقى مرهونا بنزع جسدنا فلن نعرف الحقيقة ونكشف لغز الحياة الا بنزع جسدنا هذا وتركه ترابا هنا في مواقعنا ! وما ان ننتهي من تلك التساؤلات الفذة حتى نواجه واقعا لم يخطر على بالنا عندما كنا في منتصف العمر وهو : لم بقينا اقلية وسط اغلبية ؟ ولكي لاتذهب الظنون الى السياسة فانني اتحدث عن الحياة والموت حصرا، وهما الرهبة الاعظم والاحتياز الاقوى ، احملق في كل ما حولي، اتفقد الاسماء والوجوه، فارى الغياب هو السيد، غاب اجدادنا ورحل اباءنا وطوى التراب امهاتنا واعمامنا واخوالنا وخالاتنا وعماتنا وابناهم واحدا تلو الاخر ،غادرونا فجاة وبلا سابق انذار ، ولم يتركوا لنا الا لوعة الفراق، وسؤال ابدي: لماذ نموت بعد ان خلقنا؟!
نحن الان وبعد رحيل هؤلاء اقلية وكلما فر الزمن زادت اقليتنا وتناقصت اعدادنا ، واخذ شعور جامح يغزونا بان الاحباب يتناقصون بلا توقف وبقدرة خالق عظيم ، نرى اننا كلما مر الزمن نفقد حبيبا ، ومقابله يولد طفل جديد قد لانراه وانما نسمع باسمه ونرى رسمه ونحن في الغربة الجبرية ، وهي من مظالم الحياة والغازها،فالاجيال الجديدة من اهلنا واقرباءنا بعيدة عنا وهي مجرد اسم ورسم، لانستطيع لمسها وتقبيلها واحتضانها كما كنا نفعل سابقا عندما كنا نعيش في وطن عزيز اسمه يعانق السماء السابعة.
يجردنا الزمن من حق التفاعل المباشر ونجد اننا اسرى اللاشيء، فمن يأسرنا لانراه غالبا وان كنا نرى اداته، ترحل الاغلبية وتزداد اقلويتنا، نبذل المستحيل للتفاهم مع الاغلبية الجديدة من ابناءنا واحفادنا واقاربنا واصدقائنا ، ولكن هيهات فالذين رحلوا كانوا اكثر قربا الينا من الاجيال الجديدة ،ولنقل كانوا مثلنا نشأنا معا في نفس معمعة الحياة السابقة والتي غادرت هي الاخرى ولم تعد موجودة، فشتان بين عالم الراديو والمقاهي ولعبة الدومينو والختيلة والسباحة في نهر دجلة وبين الانترنيت وجيله المتفوق علينا كثيرا رغم اننا ربما نكون اذكى منه! تنزاح من شاشات نواظرنا كل صورة تقليدية وتحل محلها صور غريبة لم نألفها، وعندما نحاول فهمها تفلت من بين يدينا كما تفلت سمكة اصطدناها بعد كفاح مرير ،فلا نفهما ونبقى عاجزين عن التكيف معها! نحن ولدنا في عالم اخر مختلف، تزداد غربتنا وتتنحى الغبطة جانبا !
اقلويتنا تزداد ضراوة بتزامن رحيل من كنا نتفاهم معه بالاشارة او بالابتسامة، ومعايشتنا القسرية الان لمن يتفاهم بالمختصرات والحروف التي تبتدعها ثقافة الانترنيت تجعل التماهي منفيا في كون اخر، فكل ما حولنا غريب، واكثر ما فيه غرابة اننا مازلنا نعيش ونتقبل تلك اللوحة السريالية الضاجة بالمفارقات الوجودية الحادة، ومع ذلك نعيش فيها ونتعايش معها لانه لاخيار اخر لدينا ، فاما ان تتعايش مع الغربة في هذه الحياة او نواجه ظلام قبر الحياة ونحن احياء بوعي ناقص لها ولألغازها الساحقة الماحقة، فنسير ونحن نحمل قبورنا منحوتة في حدقات عيوننا ! هل حقا هناك من ينتظرنا وسيستقبلنا بعد ان نغادر ؟ قصص كثيرة منها ما هو غريب واخر رهيب ، ولكنها كلها مجرد الغاز واسرار من المستحيل التأكد منها او حلها او فهماه بصورة مقنعة ، فيزداد خنق صدورنا بأطنان الفضول القاتل! لم تلغز الحياة بهذه الطريقة المحكمة بحيث نعجز عن فهمها بيقينية؟
نحن اقلية ونزداد قلة مع تصرم الوقت بقوة الموت وقرينته الحياة، ورغم كل تلك الاسئلة التي قد تبدو تشاؤمية الا ننا نتحدى مشاعرنا ونتجاهل واقعنا ونغذ السير في طريق توقعاتنا واهدافنا غير هيابين من غياب الجواب على لغز الحياة ، فالنضال ضد اللغز هو هدف بحد ذاته ، وهو ما يجعل ما تبقى لنا من وقت لذيذا ومنعشا للروح ! ولكن ما هي الروح؟ وصفتها بانها من يحتل جسدنا ويحركه فجسدنا ليس الا ثوب كثوب رائد الفضاء الذي يرتديه قبل المغادرة الى الفضاء لحماية الجسد . نتحرك بالجسد ولكن هناك من يحركه ونحن نحس به لانه الروح التي لانراها ولكننا نحسها كل لحظة ولايتوقف هذا الاحساس الا بعد ان نعود مجرد روح بلا جسد كما كنا ، عندما يتهرأ الجسد كما تتهرأ السيارة بعد سنوات من الاستخدام ولا يمكن تغيير ادواتها فتنفك الروح عن الجسد لانه لم يعد يحميها من غضب الكرة الارضية الفج ، ولكن ادراك هذه الحقيقة يزجنا بقوة قاهرة في سؤال اخر وهو : الى اين تذهب الروح ؟ هل لاحظتم ان الكتب المقدسة والنظريات تتحدث عن نزول او ظهور الانسان في الكرة الارضية ؟ ما معنى ذلك ؟ هل معناه اننا اتينا من مكان اخر في الكون ؟ واذا كان الجواب نعم فذلك يولد سؤالا احرا : اين يقع ولم غادرناه واتينا لكوكب الارض؟ وهل الجنة هي العودة لوطننا الاول؟
ان لعنة الوجود هي التساؤل فلا اكثر سحقا للمنطق وللوضوح من التساؤلات التي لا جواب بقيني عليها،ولا يوجد تحد للانسان في كل تاريخه اقدم وارسخ من سؤال شارد ولكنه يجثم فوق صدورنا كفيل ميت لانستطيع ازاحته! وكلما رحل عزيز علينا اندلعت معركة التساؤلات بتزاحمها ورفضها تحقيق مساومة وانسجام فيما بينها والضحية هو نحن البشر الضعفاء امام المجهول من الكون وهو النسبة الاكبر بملايين المرات مما نعلم عنه . هذه الافكار اوقد نارها رحيل ابن عمي السفير قيس المختار رحمه الله واسكنه جناته وغفر له والهمنا الصبر لفقدانه نحن الاقلية بقوة الموت في عالم تزداد اغلبيته بلا توقف بقوة الولادات الجديدة،ونقابل ذلك بأصرار اشد على كسب معركة الحياة ،فما بقي لنا هو المحافظة على نقاوتنا بعد اختبارات عقود طويلة، لانه هو ما سيبقى منا غدا ، وهو خير ما نورثه لابناءنا واحفادنا .
الرحمة للاقلية التي تزداد يوميا ورحلت وربما تنتظرنا هناك في المجهول ونراها كما لو انها مازالت معنا او هكذا نتمنى، فلا تغيب اشراقات عيونها ولا تنمحي اطياف صوتها، نراها في يقظتنا وفي احلامنا،تحية للاقلية التي تجذرت اصالتها رغم نتؤات الحياة وفخاخها وبقيت متحدية تقاوم بلا تردد وليس في وعيها فكرة الاستسلام.